تنشر «الراي» الحلقة الثانية من كتاب «الشيخ أحمد الجابر الصباح.. نشأته وأحداث عهده وإنجازاته» للمؤلف علي غلوم الرئيس، الذي يقدم صورة شاملة عن الحياة في الكويت خلال حكم الشيخ أحمد الجابر الصباح، حاكم الكويت العاشر، مدعومة بالوثائق والصور التي تنشر للمرة الأولى.
وتتطرق الحلقة الثانية إلى تاريخ نشاط الشيخ أحمد الجابر، قبل توليه الحكم ومعاصرته لجده الشيخ مبارك الصباح، ومن بعده والده الشيخ جابر المبارك، ثم عمه الشيخ سالم المبارك، وكيف تم تأهيله للمهام الجسام.
وتتناول لقاءات الشيخ أحمد الجابر بشخصيات مهمة خلال زياراتهم البلاد، أو رحلاته الخارجية، ومنهم الشريف حسين أثناء رحلة الحج عام 1918، وكذلك الأمير فيصل بن عبدالعزيز، خلال رحلته إلى لندن عام 1919، التي التقى فيها بالملك جورج، كما نشير إلى انطباعات الشيخ أحمد الجابر، عن لندن والأماكن التي زارها.
قبل تولي الحكم
ورد في عدد من المصادر والكتب التاريخية والصحافة العربية والأجنبية، والوثائق الأهلية والبريطانية، أنه قبل تولي الشيخ أحمد الجابر الحكم، قام برحلة إلى الحج عام 1918، ورحلة إلى إنكلترا عام 1919، ورحلة إلى الرياض عام 1921 للقاء الملك عبدالعزيز آل سعود بخصوص اتفاقية الصلح بينه وبين عمه الشيخ سالم المبارك الصباح.
وعاصر جده الشيخ مبارك الصباح (الحاكم السابع) ومن بعده والده الشيخ جابر المبارك الصباح (الحاكم الثامن)، ثم عمه الشيخ سالم المبارك الصباح (الحاكم التاسع)، والتقى شخصيات مهمة كثيرة في أثناء زياراتهم البلاد أو خلال رحلاته. كما عاصر حروباً مرت بها البلاد، مثل حرب الصريف وهدية وحمض والجهراء والرقعي، وأحداثا أخرى اقتصادية وسياسية وأزمات.
وفي تقارير السفن الحربية الروسية التي زارت الكويت بين عامي 1900 و1903، نجد ذكراً للشيخ أحمد الجابر الصباح يُعَدُّ الأقدم في سيرة حياته.
النشأة
وفي تقارير المعتمد البريطاني في الكويت الكولونيل إس. جي. نوكس (أول معتمد سياسي في الكويت 1904 - 1909) ذُكر الشيخ أحمد الجابر الصباح في مراحل متقدمة من عمره، رغم صغر سنه في إطار تنشئته السياسية والاجتماعية، وهي تعليمات جده الشيخ مبارك الصباح، ووالده الشيخ جابر المبارك، لتأهيله للمستقبل، يتبيّن ذلك في ما يأتي:
في صباح اليوم الثالث عشر من شهر مارس عام 1907، لاحظ المعتمد السياسي البريطاني أن الشيخ أحمد بن جابر قد اتخذ موضع والده في المقهى (المقهى المقصود قهوة بوناشي الواقعة قرب المناخ القديم واشتهرت أيضاً بقهوة الشيوخ)، حيث اعتاد الشيخ جابر بن مبارك، أن يمارس مهامه القضائية. وهذا شيء مثير للاهتمام، إذ يُبيّن المسار الذي يتمنى الشيخ مبارك من خليفته أن يتخذه. (يقصد أن الشيخ جابر يهيئ ابنه الشيخ أحمد لمثل هذه الأمور) والشيخ جابر موجود في الصحراء (البر)، ومتوقع عودته في السادس عشر من الشهر نفسه، عندما يغادر الشيخ مبارك إلى المعسكر (المخيم).
رحلة لندن
بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى في عام 1919، أقامت بريطانيا احتفالاً كبيراً بهذه المناسبة، وتمت دعوة عدد كبير من الشخصيات العالمية لحضور ذلك الاحتفال وكان من بينها مجموعة من الأمراء العرب، الذين قاموا بزيارة لندن وحضور الاحتفال وتهنئة ملك بريطانيا بحيازة النصر.
أمر الشيخ سالم أن يؤلف الوفد المزمع إرساله إلى لندن من الشيخ أحمد الجابر وأحمد العبدالجليل وجاسم بن يعقوب وسلطان بن كاسب، وعُرضت أسماؤهم على الحكومة البريطانية، فوافقت على ذلك، واعتبرت الوفد في ضيافتها، من يوم مبارحته الكويت إلى حين عودته.
وحول هذه الرحلة، يقول السيد همفري بومان (مدير التعليم في العراق) الذي رافق الوفد إلى إنكلترا في ذلك الصيف: طلب مني ولسون مهمة على جانب من الأهمية، أصالة عن حكومة جلالته، فقد كان أمير نجد، والذي هو الملك عبدالعزيز بن سعود، الذي استثمرت صداقته بريطانيا العظمى في أثناء الحرب وبعدها، قد دعي إلى زيارة لندن. ولأنه لم يكن بإمكانه مغادرة الجزيرة العربية، وافق على إرسال ابنه الثاني الأمير فيصل بدلاً عنه... وكان سيحل ضيفاً على حكومة جلالته زعيم عربي آخر أيضاً هو الشيخ أحمد بن جابر، ممثلاً لعمه أمير الكويت الشيخ سالم. في البحر
ويضيف بومان: في أواخر أغسطس أبحرتُ من البصرة على متن الباخرة لورنس، باخرة البريد الملكي، التي يقودها القبطان لين من ضباط البحرية الملكية الهندية.
توقفنا أولاً في ميناء الكويت حيث قمنا بزيارة الشيخ سالم، وتعرفنا إلى ابن أخيه الذي كان سيسافر في كنفنا وصعد الشيخ أحمد إلى متن الباخرة ظهراً، مصحوباً بحشد من الأصدقاء والأتباع، وبعد العناق وتبادل كلمات الوداع بين الشيخ أحمد وأصدقائه أبحرنا إلى البحرين.
هناك أخذنا فيصل وفريقه فبلغ العدد الإجمالي لأفراد الوفد العربي، مع القادمين من الكويت، 12 شخصاً. وأخيراً أبحرنا في الطريق إلى إنكلترا مع جماعة مكونة من أحد عشر عربياً، غادرنا البحرين إلى مسقط، حيث جرى لنا استقبال رسمي من قبل سلطان عمان السلطان تيمور بن فيصل البوسعيدي.
وصل الوفد إلى إنكلترا بتاريخ 13 أكتوبر 1919، وكان في المحطة بانتظاره مندوبون من قبل البلاط ومن قبل رئيس الوزراء المستر لويد جورج، ومن قبل وزارة الخارجية، ومن قبل وزير شؤون الهند. أنزلوه في أحد الفنادق المهمة وعينت له الحكومة البريطانية ضابطين من ضباطها العسكريين ليرافقاه ويتجولا معه حيثما شاء لمشاهدة المدينة.
مقابلة الملك جورج
في 30 أكتوبر 1919، صدرت إرادة الملك جورج الخامس بالسماح للوفد الكويتي بمقابلته بصفة رسمية، فأرسلت إليه سيارة ملكية خاصة أقلته إلى قصر باكنغهام، وعند دخولها إلى حديقة القصر استقبلها ثلاثة من رجال الحرس الملكي، ليهدوها إلى ساحة الاستقبال، ثم تقدم إليهم أحد موظفي التشريفات، ودخل بهم إلى قاعة العرش. وكان في صدر القاعة صاحب الجلالة الملك والملكة، وابنتهما الأميرة ماري وقوفاً، وكان واقفاً على يمين الملك اللورد كرزن والمستر بلفور، ومحافظ مدينة لندن وغيرهم من نبلاء الإنكليز. وقبل وصولهم نادى كبير التشريفات باسم الشيخ أحمد الجابر وبقية رجال الوفد واحداً واحداً، فتقدموا وحيوا الملك والملكة ومن كان واقفاً معهما، وقدم الشيخ أحمد هدية الكويت إلى الملك، وهي سيف وخنجر مذهبان ومرصعان بالأحجار الكريمة، وقد أعلم الملك بأنه قدم إلى اصطبله الملكي جواداً من أنجب الخيول العربية.
وصف شامل
يقول الدكتور يعقوب الغنيم: أما الوصف الشامل لهذه الرحلة بجميع جزئياتها فقد كتبه الدكتور ستانلي ج. ميلري الطبيب في مستشفى الإرسالية الأميركية في الكويت اعتباراً من سنة 1911.
وقد تحدث عن هذه الزيارة بما فيها الرحلات المرافقة لها إلى جلاسكو والمشاهدات التي مر بها الشيخ، مثل قاعدة الغواصات والأسواق والجسور وقطار الأنفاق وغير ذلك من الأمور المبهرة في ذلك الوقت، ومما يقوله ميلري:
وكان أحمد (الشيخ أحمد) لا يخرج إلا راكباً سيارته، حيث لم يكن يحب أن يحملق فيه أحد وعندما سأله أحدهم لماذا لا يرتدي الزي الأوروبي ويبتعد عن ارتداء الزي العربي يجعله مميزاً بين الناس؟ أجاب: إذا ارتديت الملابس الإنكليزية فسوف يعتقد الناس أنني أتكلم الإنكليزية، ويحاولون التحدث إليَّ، ولما كنت لا أعرف الإنكليزية، فسوف أشعر بالحرج خاصة عندما أحاول أن أشرح للناس أنني عربي ولا أعرف الإنكليزية.
كان أحمد يحب الذهاب إلى أحد المحلات الأنكلو – أميركية الضخمة «سلفريدج» في شارع أكسفورد، وقد لفت نظره الفتيات البائعات حيث كن جميعاً يرتدين الزي الأسود يشبهن في ذلك السيدات العربيات اللاتي يرتدين العباءة السوداء. كانت سكك حديد الأنفاق مصدر دهشة للشيخ، خصوصاً الأنفاق تحت نهر التيمز، وكان يقص على مستمعيه «أنت تری نفقاً فوق الآخر».
زيارات
ويتابع الدكتور يعقوب الغنيم: ومن الطبيعي أن الشيخ أحمد دعي لزيارة الأماكن والمناظر الرئيسية في لندن مثل مرصد غرينتش وویستمینستر، آبی، والبرلمان، وأن يرى كيف يعمل أبو البرلمانات وكيفية التصويت وكل ما يدور في المجلس من أنشطة، وذهب كذلك إلى قاعة محكمة هامبتون هذا القصر القديم الذي بناه الكاردينال دلزي، وأهداه إلى الملك هنري الثامن. وزار أحمد حديقة الحيوان وبالطبع مسَّ شغاف قلبه العربي أن الجِمال (الإبل) تعرض على الناس ولم يهتم أحمد بالمسارح العادية، ولكنه زارعرضاً لمسرح الغرائب على مسرح كوك ومسكيلان، حيث ادعى من قام بالعرض أمام أحمد أنهم يتفوقون على جميع العروض الهندية التقليدية والسحر الذي يقومون به، وترك العرض في نفس أحمد تأثيراً عميقاً وأثاره بشدة، واعترف أحمد أنه لا يعرف كيف يقوم هؤلاء بالحيل، وأنه ليست لديه أي فكرة عن هذه الأفكار والسحر الذي قدموه. وعلى أي حال فإنه لا يوجد شخص آخر يعرف ما يقومون به من حيل، وقد أحبّ أحمد السينما وكان يذهب إليها كل ليلة.
رحلة حج محفوفة بالمخاطر
يقول عبدالعزيز الرشيد المؤرخ المعاصر لسمو الشيخ أحمد الجابر الصباح: «هو أحد أمراء آل الصباح الذين وفقوا لأداء فريضة الحج، ولكن في عام كثر خوفه وتفاقمت أخطاره وقلّ الأمن في سبيله، وفي أيام اتقدت رمضاؤها واشتد حرُّها، ولم يثنه هذا كله عما أراد ولا استرسل في ميدان التسويف. وقد كان له أن ينسأ الحج إلى عام يبسم وجهه بالأمن وتتلفع أيامه بالسكون، ولكن شوقه الممزوج بالإخلاص حلَّق به في جو المنى مسرعاً، حتى هبط تلك الأماكن المقدسة، وتشرف بهاتيك المعاهد الميمونة، والشوق البالغ يُسَهِّل أمام صاحبه كل صعب ويذلل كل عقبة».
أمانة من «لوش» إلى «فيلبي»
بلغ قوام حملة الحج 1500 شخص، كما ذكر المعتمد البريطاني في تقريره السنوي. وقبيل سفر الشيخ أحمد الجابر للحج، بعث المعتمد البريطاني (لوش) رسالة له في 28 يوليو 1918 يستأذنه بأن يرسل معه ستة عشر صندوقاً إلى فيلبي وتكون بصحبة أحد الأشخاص المؤتمنين من قبل الحاج عبدالله النفيسي، يسافر مع الحملة، ويخبره بأن فيلبي سوف يبعث أحداً من طرفه لاستلامها، وإن لم يستلمها أحد من قبل فيلبي فتسلم عندئذ بيد فهد بن عبدالعزيز بن معمر في بريده.
الشنقيطي مرشد وزميل
في 28 يوليو من عام 1918، بدأت رحلة الحج بواسطة الجِمال إلى مكة، فعرج في طريقه على عنيزة من بلاد القصيم، ولابد أنه لقي من صديقه الملك عبدالعزيز، الحفاوة والإكرام، ولما كان الشيخ الشنقيطي موجوداً آنذاك في عنيزة اقترح عليه الشيخ أحمد أن يرافقه إلى الديار المقدسة مرشداً وزميلاً، فوافق الشنقيطي مسروراً، وكان العام الذي حج فيه الشنقيطي بمصاحبة الأمير أحمد مليئاً بالأخطار والاضطرابات والتوترات السياسية بين الحكام العرب بعضهم مع بعض من جهة، ومع دولة تركيا من جهة أخرى، كما كان الجو مشحوناً بالمؤامرات السياسية الدولية.
مقابلة الشريف حسين
عندما قاربت القافلة مدينة مكة، أرسل الملك حسين (الشريف حسين بن علي شريف مكة وملك الحجاز آنذاك) محافظين خصوصيين لاستقبالهم فوصلوا مكة بتاريخ 6 ذي الحجة 1336هـ الموافق 13 سبتمبر 1918، حيث حظي الشيخ أحمد الجابر بمقابلة الملك حسين، وقدم له هداياه التي يحملها، فتقبلها الملك حسين بكل سرور ورحب بمقدمه وكان من الهدايا مسباح من اللؤلؤ حمله معه إهداء من الشيخ سالم الصباح.
استقبال حافل برحلة العودة
بعد أن أتم الشيخ أحمد الجابر الصباح ومن معه مناسك الحج، بدأت رحلة العودة إلى الكويت، التي عمها الفرح عندما علمت بأن قافلة الحجاج قريبة من أرض الوطن، ووصل الخبر عن وصولها إلى الجهراء، وسرعان ما امتلأ الطريق المؤدي إلى الجهراء بالناس الذين توافدوا لاستقبال العائدين، وكان ذلك في 29 أكتوبر 1918، واستغرقت الرحلة من مكة عدا التوقفات 32 يوماً، وقد استقبلهم المعتمد السياسي مع الشيخ سالم المبارك.