هناك أمر واقعي وحقيقي، أن الإنسان كائن حائر في أمره، ومحير لغيره، فنحن لا نكاد نبحث في قضية إنسانية اجتماعية أو تاريخية أو أخلاقية، حتى نصطدم باختلاف الأفكار والآراء والتحليلات..

وكل ما قدمناه يعود لأسباب عدة، منها أن عقولنا حين تحاول التعامل مع المعاني والأشياء غير المحسوسة، تحتاج إلى أدوات، وهي: المعلومات المتوافرة، والخلفية الثقافية لصاحب الرأي، والتعريفات والمصطلحات المتعلقة بالقضية، وهذه الأدوات تتصف بالتدفق، فلكل منا خلفيته الثقافية.

مثلاً، في بلد من البلدان، يعانون من القمع، وتقييد الحريات، فما تعرفه أنت عن القمع، غير ما يعرفه غيرك، كما أن تعريفاتنا للقمع، وتقييد الحريات، موضع اختلاف كذلك.

وكثيراً ما نرى من يمدح القمع وتقييد الحريات؛ لأنه يخلط بينه وبين منظومة سيادة النظام، ودرء الفساد، وانتشار الفتن، وهناك من يسوغه؛ لأنه ينظر من أفق ما هو موجود من تحقيق للعدالة والمساواة.. وهذا كله على افتراض استطاعتنا إبعاد النقاش عن الأهواء وحظوظ الأنفس.

رحم الله الإمام مالك بن أنس، حين كان يختم بعض فتاواه -في بعض الأحيان- بـِ«إِن نَّظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ» (الجاثية 32). وذلك لأن وصفنا للحقائق الإنسانية، بأنها هشة، أو مرنة أو سائلة أو نسبية، ليس وصفاً من جهة ثبوتها في واقع الأمر، ولكن من خلال طريقة إدراكنا لها، ووقعها في حِسّنا ومشاعرنا.

إن تصوراتنا للوقائع التاريخية، وموقفنا العقلي منها، محكومة في الحقيقة بما في اللغة من نظم الفهم والتفسير، وإذا تحدثنا عنها وجدنا أنفسنا مرتهنين لما فيها من نظم الشرح والتوصيل والتعبير، وهي نظم معقدة جداً وسائلة إلى حدّ ما.

ومن خلال هشاشة أو سيولة ونسبية الحقائق، نجد لدى الكثير الرغبة في الاجتهاد والاستكشاف والبحث والتعليل، وعن طريق كل هذا تنمو المعارف والعلوم، كما أننا من خلال فهم هذه الوضعية نشعر بالتواضع، ونجد الأعذار لبعضنا عند الاختلاف، بالإضافة إلى توليد عقلية رسم الاحتمالات والسيناريوهات، والمستخدمة اليوم على نطاق واسع في المستقبليات.

ولتجنب التعصب للآراء، وعدم قبول الأشخاص، لا بد من غربلة ثقافتنا وتمحيصها ومراجعتها، حتى نتخلص من الأفكار الميتة والمُميتة، كما قال مالك بن نبي.

M.alwohaib@gmail.com

@mona_alwohaib