في زاوية ما من الحياة، يقف كثيرون متجمدين عند المفترق، لا لأنهم لا يعرفون الطريق، بل لأنهم يخشون العبور. التردد في اتخاذ القرار ليس دائماً قلة وعي، بل قد يكون وعياً زائداً، وخوفاً من كل نتيجة محتملة. حين نقف طويلاً بين «نعم» و«لا»، يتحول الانتظار إلى عبء، ويصبح الصمت قراراً في حد ذاته، لكنه قرار لا نعترف به.

«بدر» شاب في أواخر العشرينات، أنهى دراسته الجامعية، واستعد لخطوته التالية كما تقتضي الأعراف. اختارت له والدته فتاة من العائلة، مهذبة، رزينة، لا يُعيبها شيء على الورق. كل من حوله كان يؤكد أنها «فرصة لا تُعوض». لكن داخله كان صامتاً... ومضطرباً.

لم يكن يشعر تجاهها بأي شيء يشبه الانجذاب، ولا حتى الفضول. فقط احترام بارد. ورغم ذلك، مضى في إجراءات الخطبة بدافع المجاملة والالتزام. لم يرد أن يخيب ظن والدته، ولم يجد الشجاعة ليقول: «لا أشعر بشيء». وكلما اقترب موعد عقد القران، ازداد ثقل القرار على صدره.

كان يقول لنفسه: «ربما الحب يأتي بعد الزواج»، و«لا أحد يحصل على كل شيء». لكنه لم يكن ينام جيداً، وكانت فكرة الزواج تشعره بالاختناق لا بالبهجة. تردد كثيراً، تألم بصمت، وتظاهر بالرضا. حتى جاء مساء ما قبل الخطبة، وجلس أمام مرآته طويلاً. سأل نفسه بصدق: «هل سأكون زوجاً جيداً لها؟ هل سأمنحها قلباً لا أملكه؟ هل أستحق أن أرتبط بإنسانة لا أبادلها الشعور؟».

حينها فقط، أدرك أن تأجيل القرار لم يكن احتراماً لها، بل خيانة لنفسه ولها معاً. انسحب في اللحظة الأخيرة، وواجه العتاب والملامة والأسئلة الكثيرة. لكنه للمرة الأولى منذ شهور، شعر بالخفة. لم يعد متردداً. اختار ألا يكمل، رغم صعوبة التراجع، واختار الصدق بدلاً من المجاملة.

قصة بدر، تتكرر بأشكال مختلفة. أشخاص يعيشون في علاقات، وظائف، مدن، أو حتى صداقة لا تشبههم، لكنهم يترددون في الانسحاب. ليس لأنهم لا يعرفون الصواب، بل لأنهم لا يريدون خوض المعركة. التردد، في كثير من الأحيان، ليس حيرة بل خوف مقنّع. خوف من الشعور بالذنب، من الوحدة، من كلام الناس، من الندم المحتمل. لكنه لا يحمي، بل يؤجل الانفجار.

في بعض اللحظات، القرار الصعب هو القرار الصحيح. وليس علينا أن ننتظر أن تكون الصورة كاملة أو المشاعر مرتبة أو الظروف مثالية. في داخلنا بوصلة لا تخطئ... إذا منحناها فرصة الحديث.

نحن لا نُكسر حين نُخطئ... بل حين نختار العيش في قرارات لا نؤمن بها.

تحياتي.