تصادف هذه الأيام ذكرى استشهاد أبي الشهداء الإمام الحسين، عليه السلام في أرض كربلاء، وتتزامن هذه الذكرى مع قيام الكيان الصهيوني بأعتى وأبشع الجرائم في العصر الحديث، على أرض فلسطين. فهل للتاريخ كلمته في مقاربة الظلم الذي وقع في هاتين الحادثتين؟ لا شك أن المنهج التاريخي هو منهج رباني قرآني قبل أن يكون منهجاً علمياً تتبعه مختلف العلوم الإنسانية للكشف عن القوانين والسنن.

ما حدث في كربلاء وثّقته كتب التاريخ من مختلف المصادر، وأقلّها حدةً يروي مأساة حقيقية وقعت بحق حفيد الرسول الأكرم، عليه وعلى آله أفضل الصلاة والتسليم. كانت هناك معركة محاطة بالحصار والتجويع، ومنعٍ للماء والطعام، وإرهاب وصهيل خيول وقرع طبول ولهيب نار وصليل سيوف. في كربلاء، قُتل الصغير والكبير، وذُبح الرجال والنساء، وتعرضت الأجساد للتمثيل، والرؤوس للرَفع على الرماح. في كربلاء حدث حرق وترحيل وسبي وسبّ وشماتة، سبقتها وتلتها دعاية كاذبة، وخيانة غادرة، وشعارات زائفة، ووعود خادعة.

لكن، في المقابل، كانت هناك عزة وشجاعة ووفاء ونُبل وصدق وإيمان تجسدت في موقف الإمام الحسين عليه السلام، وأهل بيته وصحبه. كان في كربلاء جيش صغير محاصر مغدور، في مواجهة جيش عظيم مدجج بالسلاح، منتشٍ بالقوة، مدفوع بجشع الغنائم، وموعود بالأموال والعطايا. ورغم أن المعركة حُسمت عسكرياً لصالح الجيش المستكبر الذي جاء طامعاً في المناصب والوجاهة، إلا أنها لم تكن نصراً حقيقياً، بل لعنة تاريخية ووصمة عار أبدية. بينما نعى التاريخ الحسين وأصحابه عليهم السلام بالتمجيد، وخلّد ذكراهم بالتجديد، ورفع رايتهم فوق كل تلٍّ وصعيد، وأكسبهم في كل زمان ومكان ببطولة لا تموت ولا تبيد.

لقد أثبت التاريخ أن القوة المجردة لا تصنع نصراً، ولا تمنح حقاً، بل إن الحق هو الذي يصنع القوة، ويُهزم الباطل أمامه ولو بعد حين. ومن هنا، تتجلى القاعدة التاريخية الراسخة: إن حقّ السلطة لا يساوي سلطة الحق. فحق السلطة أمر مادي وقتي، بينما سلطة الحق مزيج مادي ومعنوي سرمدي. الفرق بينهما كالفرق بين السراب والماء، وبين الظلام والنور في الخلاء.

في غزة اليوم، تحضر كربلاء بكل تجلياتها وعناوينها ومعانيها. هناك حصار وقتل وتجويع وتشريد، وإرهاب لا يفرق بين صغير وكبير، ولا بين امرأة ورجل. في غزة، تتوارى النخب الحاكمة في كثير من الدول الغربية خلف أكاذيبها، متناقضة مع ادعاءاتها وشعاراتها حول حقوق الإنسان والديمقراطية وحرياتها، بينما تعلو أصوات الشعوب الحرة استنكاراً وشجباً لما يجري من إبادة جماعية، ولم تعد تنطلي عليها أكاذيب سحرة بابل.

في غزة، يفرض الجيش الصهيوني الدموي، المدعوم من قوى تسعى لاحتكار السلطة العالمية، حصاراً خانقاً على السكان العزل، ويقتلهم ليلاً ونهاراً، سراً وجهاراً. في غزة، صبر وشجاعة ورباطة جأش، وإيمان لا يلين، في مقابل غدر وخيانة وطغيان باغين. وكما في كربلاء، فإن الصامتين عن الحق كُثر، والساكتين الراضين اليوم أكثر، وهم شركاء بذلك الموقف للجرائم البواح. وكما قيل آنذاك: «ما لنا ومالهم»، فاستحقوا غضب الله، وأصابهم من الحيف ما أصاب غيرهم، وسيكون مصير من يقف الموقف ذاته، المصير المحتوم ذاته. في كربلاء صدح الحسين عليه السلام ألا من ناصر ينصرنا فلم يسمعه ويلبي نداه إلا نفر قليل، وفي غزة يصرخ الفلسطينيون اليوم أين انتم من مذابحنا فلا يصل إليهم إلا النزر اليسير، والله المستعان على ما يصفون.

قد يظن الطغاة الصهاينة أنهم منتصرون بدوي مدافعهم، وجلجلة دباباتهم، وهدير طائراتهم، لكنهم واهمون. إن سلطة الحق هي المنتصرة، لذلك انتصر الحسين عليه السلام لحقها، ولم ينتصر لمطامعها بل كسر قيودها ولم يهن لعنفوانها ولم يخضع لتخويفها. إن الإمام الحسين عليه السلام ليس مجرد شخصية عابرة، بل سيد الشهداء ومدرسة الأدب والأدباء، مدرسة تاريخية حرة متجددة، تفيض بالحكم والعبر الخالدة، ومن يستلهم منها دروسها الوافرة، سيرى ذلك النور الأخلاقي والإيمانيّ الخارق للمكان والزمان، قادماً مشعاً بازغاً لا محالة.... فهل من متّعظ؟