من منا لا يعرف درس الكيمياء؟ من منا لم يسمع بـ "أبو الكيمياء جابر بن حيان"؟ أخي العزيز هل تساءلت من قبل من علّم جابر بن حيان الكيمياء؟ هذا العالم الشهير هو تلميذ من تلامذة إمام الفقهاء جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) ، تخرّج من مدرسته فكان طبيباً يعالج المرضى ويستعمل العقاقير الطبية ويسميها "بالاكسير" وكان يشفي الكثير من المرضى في علاجه، وقد قال عنه الفيلسوف الإنكليزي فرانسيس باكون: "إن جابر بن حيان هو أول من علّم عِلم الكيمياء للعالم، فهو أبو الكيمياء" وكان من المجتهدين في عصره فهو من أول من استعمل الميزان الحساس والأوزان متناهية الدقة في تجاربه المخبرية، ألّف الكثير من الكتب في الطب وفي علوم الكيمياء وفي الفلك وحتى في الشؤون الفلكية وله كتاب "الجامع في الأسطرلاب" ويحوي على ألف باب ونيف من التجارب العجيبة ما لم يسبقه إليه أحد وكلها تعلمها من الإمام الصادق (عليه السلام) لذلك يقول في حقّه بعض تلاميذه لما سُئل من أين جئت بهذه الحكم؟ أجاب ببيتين مضمونهما أنه ورث هذه الحكم من الإمام الصادق (عليه السلام).

لولا مدرسة الإمام الصادق (عليه السلام) وعلومه لما عُرف جابر وما نال درجة العالم العربي واشتهر بأفكاره واختراعاته العملية، إلى يومنا هذا، هذا وهو تلميذ إمام الصادق فكيف كان عِلم الإمام الصادق (عليه السلام).

كانت معارف الإمام الصادق (عليه السلام) واسعة جداً في الفقه والطب والكيمياء وعلوم الهيئة والنجوم وعلوم الفيزياء والفلسفة والجغرافيا والتاريخ، فكان العالم الأول في العلوم البشرية والفيلسوف الرائد الذي كان على علم بخواص الأشياء منفردة ومركّبة، وقد درّس علم الكيمياء في مدرسته قبل اثني عشر قرناً ونصف قرن، ووضع الأسس العلمية الحديثة والمعاصرة للكيمياء من خلال الحلقات العلمية والنظريات التي كانت تزدهر في عصره، وكانت الوفود تقف عند داره لعلها تغرف من فيض علمه، ويرجعون إلى أهلهم عالمين وعندما يسألوهم من أين لكم هذا؟ يقولون إنه من جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) فكان يحدّث كل رجل بلغته ويكلّمه بكلام يحمله عقله.

وكذلك كانت له حقائق كثيرة في الفكر والدين والحضارة والحكمة والفلسفة والطبيعة وغيرها كثير سبق فيها علماء الغرب المعاصرين.

وقد اتسعت مدرسة الإمام الصادق (عليه السلام) الإسلامية العلمية العقلانية الموضوعيَّة الواسعة لتشمل الجميع، فلم تضق بأحد، فقد عمل الإمام (عليه السلام) في تلك المرحلة على الدعوة إلى الإسلام، وعلى تثقيف الناس وتصحيح المفاهيم، وعلى توجيه المجتمع الإسلامي إلى المنهج الأخلاقي ومكارم الأخلاق الذي لم يترك (عليه السلام) أيّ موقع من مواقعه إلا وتحدَّث عنهما ووجّه الناس إليهما.

وكذلك دعا الإمام الصادق (عليه السلام) إلى إصلاح العلاقات والروابط بين الناس والتقريب بينهم، ليكونوا أخوة متآزرين متعاونين متحابين فقال: "صدقة يحبها الله إصلاح بين الناس إذا تفاسدوا وتقارب بينهم إذا تباعدوا"، وقال عليه السلام: "أكرم الخلق على الله بعد الأنبياء ؛ العلماء الناصحون، والمتعلِّمون الخاشعون، والمصلح بين الناس في الله"، ونهى الإمام الصادق (عليه السلام) عن التعصّب لأنه أحد أهم أسباب وعوامل التشاجر والتناحر والاختلاف والفرقة بين المسلمين فهو يمنع من الالتقاء والاجتماع في المشتركات وفي الآفاق العليا. قال (عليه السلام): "من تعصّب أو تُعُصِّب له، فقد خلع ربقة الإيمان من عنقه"، وقال (عليه السلام) : "من تعصّب عصّبه الله بعصابة من نار جهنّم يوم القيامة".

وقد وجّه الأنظار إلى الموازين السليمة في التقويم والتقديم، والقائمة على أساس القرب من الله تعالى، وهي أهم ميزان للعلاقات، وفي هذا الصدد قال (عليه السلام):" من أوثق عرى الإيمان أن تحبّ في الله وتبغض في الله وتعطي في الله، وتمنع في الله". فقد قدّم الإمام الصادق (عليه السلام)، الحبّ في الله والبغض في الله على جميع ألوان ومجالات الحب والبغض القائمة على أساس الانتماء والولاء للغة أو المذهب، لأنها انتماءات وولاءات ثانوية، لا تصح أن تكون بذاتها محببة، بل بدرجة تأثيرها الايجابي الواقع ضمن قاعدة الحب في الله والبغض في الله. وبهذه الأخلاق الفاضلة تمكّن الإمام جعفر الصادق (عليه السلام)، من تربية آلاف العلماء وما بقي إرثاً للمسلمين من خلفه كله من آثار أخلاقه وايمانه بالحوار والتسامح الذي اتصف بهما وعلَّمها لتلاميذه وأصحابه، وأوصى المسلمين بالالتزام بمبدأ الحوار البنّاء لا الحوار الهدّام لوحدة المسلمين وذلك بزرع التفرقة والفرقة والشقاق بينهم. فعلينا الاقتداء بمثل هذه الشخصية العظيمة واتخاذ الوحدة شعارا لنا، فبالرغم من اختلاف التوجّهات الفكريّة وتنوّع المدارس الفقهيّة إلا أن الأمة الإسلامية أمة واحدة وغايتها واحدة وهدفها مشترك وتجمعها المشتركات: التوحيد كلمة لا إله الا الله والرسالة النبوية والقبلة الواحدة وإن تعددت وسائلها وسبلها وإن تنوعت الطرق الموصلة الى هذا الهدف.

حقّا، لقد كان الإمام أبي عبد الله جعفر الصادق (عليه السلام) معجزة الدنيا الخالدة، ومفخرة الإنسانية الباقية على مرّ العصور، وعبر الأجيال والدهور، جمع الفضائل كلها، وحاز المكارم جميعها، وسبق الدنيا بعلومه ومعارفه.

* الأمين العام للهيئة العالمية للفقه الإسلامي