تدبّرت حالي في هذه الليالي المباركة، وبحثت عن أعظم نعم الله على الإنسان.

قلّبت كثيراً من النعم التي لا تحصى.

لكني وقفت على نعمة وجدتها ملهمة العظماء والعلماء... ووقود الأدباء والفقهاء.

بل لا أبالغ إن قلت إنها أنيس الغرباء ومعلم الحكماء.

أتحدث هنا عن الحافظة أو عالمك الذي تعيشه مع كل نفس في حياتك.

كثير من الناس يشكو من ضعف الذاكرة أو الحفظ.

فعندما تسأله عن فلان يفاجئك بأنه لا يتذكره، وقد نسي أنه كان معه في الصيف الماضي!

وعندما تتحدث معه في قصة أو (سالفة)، يشاركك بأنها لاحت في خاطره لكنه لا يذكر تفاصيلها!

والعقل الإنساني يمكنه تخزين أكثر من مليون ميغابايت من البيانات؛ يعني أكثر من مليار كتاب !

والذاكرة أو الحافظة حاسة يحفظ بها الذهن الأحداث والصور والأصوات.

يقول لاروشفو كولد الكاتب (1680): «جميع الناس يشكون من حافظتهم، وما شكا قط أحد من عقله».

لذلك الحافظ ومن يتمتّع بذاكرة قوية عادة ما يتمكن من الاستفادة، مما في مخيلته من معلومات ومواقف وتجارب الآخرين في رسم الخطط واتخاذ القرارات، وتقديم المشورة لأنه سيستفيد من تجارب وآراء وأفكار من يحفظ عنهم وممن سبقهم.

والحافظة تقوى بالتمرين وتتسع بالتدريب.

ولك أن تتخيل أن لها عضلات كعضلات الجسم، ولها رياضة كرياضة المشي.

وأن أكثر ما يقتل الحافظة ويميت الذاكرة هو الكسل عن التفكير؛ وتوقف العقل عن التذكّر ورياضة القراءة والاستماع وحرمانه من استدعاء المعلومات.

ومن أراد أن يولد الأفكار الجديدة، ويربط بعلاقات فيما بينها فعليه أن يكون حافظاً أولاً.

وبالتأكيد أن ملكة الحفظ واستظهار المعلومات، لا يأتيان بسهولة بل وفق منهج ونظام مرتّب يسير وفقه الطالب بالتكرار والممارسة، وربط المعلومات بالصور والأشكال والقصص والأحداث، ومن ذلك أسلوب الخريطة الذهنية الذي يستخدمه طلابنا اليوم.

ولذلك برز عبر التاريخ حفّاظ مهرة في القرآن والحديث، ومتون العلم واللغات المختلفة ودواوين الشعر والأدب والآثار والحكم والقوانين والقواعد العامة للعلوم وغير ذلك.

وقد تميّزت أمتنا بالحفظ المذهل والقدرات الخارقة للعادة، والإبداع والعبقرية في ذلك... ولعل السبب في قوة ملكة الحفظ عند العرب قديماً هو أنهم جاؤوا من بيئة أمية لا تعرف الكتابة في الأصل إلا ما بعد مرحلة التدوين؛ فتعوّدت على الحفظ والتلقين حتى أتقنته في الصدور.

وتناقلت الشعر والحكم والأحاديث والأخبار شفهياً، حتى برزوا في ذلك وأبدعوا... لكن حالياً بعد ظهور التكنولوجيا تشتّت العقل البشري بتداخل البيانات والمعلومات، خصوصاً في الذاكرة قصيرة المدى، حيث لا تثبت المعلومات أكثر من 30 ثانية، إن لم يكن هناك قدرة على حفظها.

لذلك كان الإمام الشافعي رحمه الله من أحفظ زمانه، حيث قضى عشرين سنة في تعلم اللغة والأدب عند قبيلة هذيل.

والمتنبي في صباه كان يجلس عند الوراقين (المكتبات ودور النشر)، فحفظ كتاباً من كتب الأصمعي من ثلاثين ورقة في دقائق معدودة... وكان الإمام أحمد بن حنبل يحفظ ألف ألف حديث! وقد قرأ سعيد بن جبير القرآن كله في ركعة واحدة في البيت الحرام.

ولك أن تنظر إلى كتب الأدب والفقه والتاريخ واللغة، التي تتزين بها مكتباتنا في كل مكان... مجلدات ضخمة مثل لسان العرب؛ تفسير القرطبي؛ تاريخ الطبري؛ وكتب التراجم ومعاجم البلدان وغير ذلك.

ترى كيف كتبوا كل ذلك من مخيلتهم وحفظهم وذاكرتهم، لو لم يكونوا فعلاً عانوا واستحقوا ذلك بالتعب والجهد والتحصيل المضني.

حقاً أن الذاكرة وملكة الحفظ من أعظم نعم الله عز وجل على الإنسان... وإلا لخسرنا الكثير من خبرات واستشارات وإرشادات وتجارب بعضنا البعض في شتّى مجالات الحياة... وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها.