No Script

بروفايل الاقتصادي الطويل الباع في السياسة رحل عن 90 عاماً

حسيب الصباغ... حمام سلام فلسطين الزاجل

تصغير
تكبير
|كتبت كارولين أسمر|

في الصفحة الرئيسية للموقع الالكتروني الخاص بالمياردير الفلسطيني المعلم حسيب الصباغ، جملة تلخص مسيرة حياة استمرت 90 عاماً، فقد «كرس حياته لايجاد حل لمعضلة الشعب الفلسطيني، وكان الامل الاعز على قلبه انشاء دولة مستقلة». رحل الصبّاغ وفي قلبه حسرة وغصة من ان شركة اتحاد المقاولين (سي سي سي)، وهي الشركة التي أسسها مع قريبه سعيد الخوري، «عمرت في ديار عربية كثيرة، من دون ان تتمكن من التعمير في فلسطين بعد ان هدمها العدو الاسرائيلي».

فالملياردير الفلسطيني الذي جال وسكن في معظم دول العالم الكبرى، لم يتمكن يوماً من نسيان بلده الام، وكان «حمام السلام الزاجل» الذي سعى جاهداً للعب دور الوسيط بين السلطة الفلسطينية وعواصم القرار مسخراً موقعه ونفوذه لخدمة قضية شعبه، تطبيقاً لمبادئ وقيم استقاها من الوالدة فادوق منذ الصغر، وتعلمها من مقاعد الجامعة الاميركية في بيروت، الصرح الذي شكل فسيفساء عربية فكرية وسياسية واجتماعية للصبّاغ، دفعته للدفاع عن قضايا الوطن العربي، بالكد والبناء والعمل من خلال شركته، منطلقاً من فلسطين الى لبنان الى الاردن ليصل الى الخليج وتحديداً الى الكويت، حيث شاركت شركته في اعادة اعمار الكويت بعد الغزو العراقي في فترة التسعينات. تاركاً بصمة سلام في كل عاصمة عربية.



البداية من طبريا

ولد حسيب الصباغ في مدينة طبريا الفلسطينية عام 1920، وهو ينحدر من عائلة خوري الفلسطينية العريقة وعلى صلة قرابة بالعالم الفيزيائي الخاص ابراهيم الصباغ والذي كان المستشار المالي لضاهر العمر الذي اشتهر في القرن الثامن عشر بتحديه للحكم العثماني، جده حبيب صباغ، كان نائب القنصل الفرنسي في صفد، وعمه توما صباغ أصبح القنصل الفرنسي في صفد وطبريا في وقت لاحق، والدة حسيب تدعى فادوق، كانت الابنة البكر لأسعد خوري، الذي لجأ الى صفد الفلسطينية ابان الحرب الاهلية في لبنان عام 1860. وقد كان والدها رجلاً عصامياً أصبح فيما بعد أحد كبار ملاك الاراضي واسعة في منطقة الحولة، وتزوج من أسرة الحداد، وانجبا ابنتين وخمسة أبناء.

كان لعائلة حسيب تأثير قوي على حياته فقد كان والده يعمل مع السلطات البلدية، ويشرف على محاصيل الزيتون وغيرها من المنتجات الزراعية من القرى المجاورة، ويقدر قيمتها وقيمة الممتلكات العقارية في مدينة صفد، ويشرف على الصيد في البحيرات طبريا والحولة. وقد علم حسيب قيمة العمل الشاق والصدق. الا ان وفاة والده في سن الـ 56 كان أول منعطف أساسي في حياته، فقد كان لا يزال في سن الـ 13 عاماً.

بعد وفاة الوالد تُركت لفادوق مسؤولية خمس بنات وثلاثة أبناء. وبالرغم من ان حسيب كان الرابع في ترتيب الاولاد وأصغر اخوته الثلاثة الا انه شعر منذ البداية انه المسؤول عن أسرته. وقد تولت فادوق ادارة شؤون البيت، فيما تسلمت عمته ادارة ممتلكات العائلة. فيما كان أخواله يحرصون على تقديم المشورة والنصيحة للسيدتين ويشرفون على مصالح الأسرة في الصيد المحلي.

تأثر حسيب كثيراً بشخصية والدته، التي ربته على قيم المساعدة ورعاية الاخرين، وقد كانت امرأة رائعة.

ففي عام 1929، على سبيل المثال، عندما فجر حائط المبكى الصراع بين العرب واليهود، واحترق الحي اليهودي في صفد حرصت، مع ابنيها كبار السن، على توفير المساعدة اليومية لعائلات يهودية لها من معارفه. كما انها كانت تساعد النساء اللواتي يعانين من مشاكل مع آبائهم أو أزواجهم. وكانت تسمح لهن بالبقاء في منزل آل صباغ الى ان تهدأ الامور، وتعمل كوسيط في الكثير من الاحيان بين النساء وأسرهن. وقد كانت أبواب منزل صباغ مفتوحة دائماً أمام الأصدقاء والأسرة، والضيوف الذين يأتون لتناول الغداء أو العشاء أو حتى قضاء ليلة (اذ لم يكن هناك فنادق في صفد في ذلك الوقت).

رفضت فادوق ترك صفد عام 1948، بل على العكس جمعت لها كل المسنين الأقارب ورفضت مغادرة منزلها. وعندما اكتشفت السلطات اليهودية ما كان يحدث، أجلت والدة حسيب الى حيفا، لتنتقل لاحقاً الى دير في الناصرة. ومن ثم غادرت عام 1953، مع الصليب الأحمر الى بيروت، حيث توفيت في عام 1960. وقد تمكنت قبل وفاتها من حضور حفل زفاف حسيب ورؤية حفيدتها سناء.



زواجه

تزوج حسيب في 8 فبراير من العام 1959 من ديانا تماري ورزقا بثلاثة أولاد سناء وسهيل وسمير، وقد تميزت ديانا بمساندتها زوجها في كل أعماله ورحلاته، حتى انها جالت معه 3 مرات في رحلات في جميع انحاء العالم، كما انها اهتمت بتربية الاطفال ورعايتهم.توفيت في 28 أغسطس عام 1978 بسكتة دماغية في لندن، وشكلت محطة وفاتها تجربة مدمرة لحسيب، لكنه آمن انه من واجبه ان يستمر في عطائه من أجل أولاده وعائلته الموسعة، وجميع الذين يعتمدون عليه.



حياته الأكاديمية والعلمية

أرسل حسيب الصباغ للمرة الأولى الى مدرسة للتعليم المختلط في المدارس الكاثوليكية في صفد، في ومن ثم دخل مدرسة عامة في وقت لاحق، وكان يرفض مغادرة الصف عندما يحين وقت حصة الدين الاسلامي، ونتيجة لذلك تعلم الكثير عن الاسلام. وقد تعلم في المدرسة مساعدة المحتاجين، كما كانت والدته تشجعه على مساعدة زملائه في الدراسة، كما كان يجمع الاموال من الطلاب الميسورين ويعطيها للأشد فقراً .

التحق حسيب عام 1938 بالجامعة الاميركية في بيروت بكلية الهندسة، وقد كانت تلك التجربة من التجارب المهمة في حياته، ليس فقط لانه كانت يتدرب على المستقبل، بل أيضاًَ لانه كان معرضاً لحياة غنية ومتنوعة سياسياً، فالجامعة الاميركية كانت تستقبل طلاباً من جميع انحاء العالم العربي يمثلون العديد من التيارات السياسية: من القوميين السوريين،أتباع انطون سعادة، والشيوعيين بقيادة خالد بقدشلي، والقوميين العرب الذين أسس عقيدتهم أستاذ الجامعة قسطنطين زريق.

عند اندلاع الحرب العالمية الثانية، تحول حسيب الى ناشط السياسي، فقد كان يخرج مع زملائه في تظاهرات ضد الفرنسيين والبريطانيين. وفي العام 1941 أيد رئيس الوزراء رشيد علي الكيلاني في ثورته ضد الوجود العسكري البريطاني في العراق.

جعلت البيئة العامة في الجامعة الأميركية في بيروت حسيب أكثر ادراكاً لمشاكل المنطقة خارج فلسطين ولبنان. ومن الأساتذة الذين أثروا بأفكار حسيب أسعد رستم، قسطنطين زريق، وشارل مالك، وهم يمثلون مختلف المدارس الفكرية في الجامعة الأميركية في بيروت،التي كانت المكان الذي اجتمع فيه حسيب بعدد من الاشخاص ارتبط معهم بشكل أو بآخر خلال حياته العملية ومنهم سالم خميس من الناصرة، فرج بشوتي من صفد، فهمي كراغولا من العراق، خليل معلوف، سامي حداد، فريد حداد، وريمون غصن من لبنان، اسحاق علي رضا، وصفي التل، خليل سالم، وحمد الفرحان من الأردن، ونجيب تليل من القدس، وجودت شوهايبار من قطاع غزة.



اتحاد المقاولين العرب

بعد تخرجه من الجامعة الاميركية في بيروت، عاد حسيب في صيف 1941 الى فلسطين ليجد عملاً، الا ان واجهته العديد من المصاعب بعد ان حاول العمل في القطاع العام الحكومي أدت به الى اتخاذ قرار برفض العمل في القطاع الحكومي مجدداً. وليتحول بعدها للعمل في القطاع الخاص.

وبناءً على مشورة عمر خليل، قدم طلبا للعمل كمتدرب من دون مرتب لشركة هندسية برئاسة أحمد فارس في حيفا. كان ينام في مطبخ المكتب.

بعد فترة نمت أعمال فارس التجارية الصغيرة،الى جانب أعمال شريكه رشدي الامام من القدس، وقررا انشاء شركتهما الخاصة، وطلبا من حسيب الانضمام اليهما بصفته شريكاً كاملاً. كان على كل رجل منهما طرح 500 جنيه للبدء بالشركة. عندها لم يكن حسيب يملك المال ما اضطره للاقتراض من أحد أعمامه. بعد سنة،خسرت الشركة رأسمالها الأصلي بعد ان انفقته لتغطية نفقات مكتب فارس في حيفا وآل الامام في القدس. وبعد ان خسر الامل في ان تتحسن الامور قرر حسيب مغادرة الشركة. وعندما طالب باستعادة استثماره، قيل له انه ليس لديه الحق في أي شيء في الشركة، ولن يحصل على المال. وقد كانت هذه ثالث تجربة سلبية لحسيب في ميدان العمل. قرر بعدها عدم العودة للعمل من اجل الآخرين في القطاعين العام أو الخاص.

وفي وقت لاحق عرض أحد المحامين الاصدقاء على حسيب ان يتخذ من مكتبه مقراً يبدأ من خلاله أعماله الخاصة. أخذ حسيب بنصيحته وعين نفسه مستشارا في الشؤون العقارية لثلاثة محامين: محمد يحيى، صبحي الخضرة، وأحمد الشقيري (الذي أصبح فيما بعد أول رئيس لمنظمة التحرير الفلسطينية عام 1964).وبعد تحسن الاوضاع المالية، انشأ حسيب عام 1945 مع 4 مقاولين آخرين، ومنهم سمعان قشقوش ومحمد علي دلول، مكتبا هندسيا خاصا بهم في حيفا، أطلقوا عليه اسم شركة اتحاد المقاولين «سي سي سي». وكان العقد الأول للشركة بناء 100 شقة لبلدية حيفا للجنود اليهود السابقين من الجيش البريطاني. وهومشروع مشترك مع المنظمة العربية للبناء، انجز في سنتين. لتفوز «سي سي سي» عام 1947 بعقد لانشاء المقر الرئيسي لشركة نفط العراق في مدينة حيفا، وكانت في طريقها الى توسعات اكبر الى ان اندلعت الحرب الاسرائيلية عام 1948.

غادر حسيب صباغ حيفا في ربيع عام 1948 قاصداً بيروت، حيث لجأ عدد من أشقائه وشقيقاته وأقربائه. واستأجر شقة من اربع غرف نوم لـ 25 فرداً من أفراد العائلة.

شكل بعدها مع صديقه فهمي كاراغولا شركة كركلا وهي شركة جديدة للمقاولات، وحصلت على عقد بناء في العراق.

عام 1950، حل حسيب شراكته مع كراغولا،وانشأ شركته الخاصة مع صهره سعيد خوري، وستة رجال أعمال آخرين من لبنان وسورية، وسماها للمرة الثانية شركة اتحاد المقاولين «سي سي سي».

كان مقرها الاساسي في البداية، في حمص في سورية، ومن ثم انتقل الى بيروت، ليصبح حسيب صباغ وسعيد خوري وكامل عبد الرحمن الملاك الوحيدين للشركة. لتصبح بعدها واحدة من أكبر شركات المقاولات في منطقة الشرق الأوسط وليتمكن حسيب صباغ من تحقيق مهنته الرئيسية.

عام 1950، حصلت «سي سي سي» على عقد كبير لبناء خطوط انابيب من حقول كركوك في العراق، الى بانياس في سورية، وطرابلس في لبنان. وفي عام 1952، كانت أصبحت قادرة على الحصول على عقد كبير لمشروع مشترك ما بين «بيشتل- ويمبي» في عدن، لبناء مصفاة كبيرة ومخيم للعمال. وبعدها بعام نفذت «سي سي سي» مشاريع في دولة الامارات العربية المتحدة والبحرين وقطر. كما انشأت عام 1973 شركة الانشاءات البترولية الوطنية في أبو ظبي لتقديم الخدمات البحرية لصناعات النفط والغاز في جميع بلدان الخليج.

عام 1975، عندما اندلعت الحرب الاهلية في لبنان، نقلت «سي سي سي» مقرها الى لندن أولاً ومن ثم الى أثينا عام 1976. حيث انتقل حسيب وعائلته أيضا، في حين ان شريكه سعيد خوري، كان لا يزال يعيش في الكويت،في حين انتقل الشريك الثالث كامل عبد الرحمن الى مدينة كان الفرنسية. الى ان قرر عبد الرحمن عام 1976 بيع حصته في «سي سي سي» لحسيب وسعيد. وبعد ثلاث سنوات توفي هذا الصديق الوفي والشريك لسنوات عديدة.

عام 1980، أعيد تشكيل «سي سي سي» مجدداً،وتسلم الصديق فوزي قواش منصب نائب الرئيس التنفيذي. ثم حاول الشريكان توسيع عمليات الشركة في أوروبا والولايات المتحدة وآسيا.

وجه الغزو العراقي للكويت في اغسطس 1990، ضربة قوية لـعمليات «سي سي سي» في منطقة الخليج. واضطرت لنقل جميع موظفيها خارج الكويت واغلاق عملياتها التجارية هناك. كما توقفت جميع مشاريع البناء في السعودية. وفقدت في غضون بضعة أشهر نحو 30 مليون دولار. وبعد الحرب، وتعهد الشركاء باقامة مشاريع جديدة في العالم العربي. وقد تم بناء خطوط انابيب في اليمن الذي يربط حقول النفط في مختلف الموانئ على البحر الأحمر. وبناء الطرق وشبكات الصرف الصحي وشبكات الطاقة الكهربائية في مصر، فضلا عن مساكن للجيش المصري.

كما فازت الشركة بمناقصة لاعادة اعمار مطار بيروت الدولي. كما شاركت «سي سي سي» في الكويت في عملية اعادة الاعمار. وهكذا، بحلول منتصف التسعينات ازدهرت «سي سي سي» مرة أخرى بعد ان تعرضت لنصيبها من الخسائر والنكسات.



الصباغ السياسي

لعب الصباغ الكثير من أدوار الوساطة ما بين منظمة التحرير الفلسطينية وزعيمها ياسر عرفات «أبو اياد»، الذي كانت تربطه به صداقة عميقة، بعد ان تعرف اليه من خلال الصديق المشترك عبد المجيد شومان، فكان يحمل الكثير من الرسائل المتبادلة بين المنظمة والادارة الاميركية في اطار مساعيه لحل الازمة الفلسطينية بطريقة سلمية، أو بينها وبين الاطراف المسيحية ابان الحرب الاهلية اللبنانية عام 1975، كما عمل جاهداً للجمع بين الاطراف اللبنانية والفلسطينية المتناحرة في تلك الفترة.

وفي العام 1982، غداة الاجتياح الاسرائيلي للبنان، قام الصباغ برفقة منيب المصري وعبد المجيد شومان بزيارة السعودية للطلب اليها التوسط لدى الادارة الاميركية لوقف قصف العاصمة بيروت ولتأمين انسحاب سلمي للفصائل الفلسطينية منها. ومن ثم لعب دور وساطة آخر مع الادارة الاميركية، لنقل شروط عرفات للانسحاب من العاصمة اللبنانية.





الفلسطيني المقاوم بالبناء



كان الصباغ مثال الشخصية الفلسطينية العربية الواعية والصلبة والملتزمة والمبدعة التي تؤمن بان الرد على نكبة عام 1948 يكون بالبناء والتفوق والاستعداد والتميز ومقارعة الصهيونية بالابداع الى ان يدرك الفلسطينيون أسباب القوة والتوازن مع العدو. وكان يوازي دفاعه عن فلسطين والانتصار لقضايا أهلها دفاعه عن لبنان وطنه الثاني الذي خدمه بكل الوسائل من خلال شركته «سي سي سي».
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي