خواطر تقرع الأجراس / قل و... قل
قل: قوَّم العصا. وقل: جلَّسها.
في لغتنا نجد أحياناً محاكم تفتيش لغوية تجرِّم من يخرج على إجماع كهنة اللغة. كما كانت محاكم التفتيش في العصور الجاهلية الأوروبية الإرهابية.
لدينا الفعل: قوَّم العصا أو العود... فالمعاجم العربية القديمة والحديثة (ماعدا معجما واحداً) أجمعت على أن (قوَّم) هو الفعل الصحيح لتقويم اعوجاج أي شيء بجعله مستقيماً ومعتدلاً.
لكن بطرس البستاني، وهو من أعلام النهضة العربية الحديثة الأفذاذ، انفرد في معجمه ( محيط المحيط) بذكر الفعل جلَّسَ العصا أو العود بمعنى قوَّم الاعوجاج فيهما.
وعلّق محمد العدناني في (معجم الأغلاط اللغوية المعاصرة) قائلاً: ولا أدري من أين جاءنا به صاحب محيط المحيط!
في بلاد الشام، ولا أعرف في غيرها، يستخدمون الفعل جلَّسَ العصا أو العود أو الرقبة المعوجة، أو القضيب المعدني عند البنّائين... بمعنى قوّم الاعوجاج.
فمن أين جاء البستاني بهذا المعنى؟ وهل في مادة (جلس) ما جعل البستاني يمارس الهرطقة اللغوية؟
نقرأ في معاجمنا القديمة عن (جلس):
جلس الشيءُ: أقامَ. وأقام العودَ والبناءَ ونحوهما: عدَّله وأزال اعوجاجه. (دققوا في هذه العلاقة بين جلس وجلَّس بالتضعيف وبين معنى الفعل أقام )!... وتقوَّم الشيءُ: تعدَّل واستوى. وكذلك الفعل استقام بمعنى اعتدل واستوى... وقائم الماء: بناء «مرتفع» يتوزّع منه الماء (محدثة). والقامة من الإنسان: «طوله». ورمحٌ قَوام وقِوام: مستقيم. والقامة من الإنسان: «طوله»، وحُسْن قدِّه.
و(جلس السحابُ) قصَد الجهاتِ «العالية». والجَلْس: الجبل العالي. والسهم الطويل. والجَلْسُ أيضاً: الغليظ «المرتفع والطويل» من كل شيء، والمرأة الشريفة. والشرف: الموضع «العالي» يُشرف على ماحوله. والشرفُ: العلوُّ والمجدُ. وفي الشعر: (لا يسلم الشرف «الرفيع» من الأذى، حتى يُراق على جوانبه الدَّمُ). إنه الشرف العالي السامي السامق الذي لا يعرف اعوجاجاً.
ونستعيد سؤال العدناني: من أين أتى صاحب محيط المحيط بفعل جلّسَ بمعنى قوَّم؟
نقول: بطرس البستاني استجاب للغة الحياة السماعية كمصدر من مصادر اللغة، وغاص في ظلالات معاني الجذور: قوم، وجلس، وشرف... لاحظوا القواسم المشتركة بين الفعلين قوّم وجلّسَ؛ ( وأُذكِّر بــ: جلَسَ الشيءُ: أقامَ. وأقام العودَ والبناءَ ونحوهما: عدَّله وأزال اعوجاجه)!
وتلك القواسم المشتركة هي: تعديل الاعوجاج، والعلو أو الارتفاع، والطول، والشرف بمعنى العلو والمجد (عودوا إلى الجَلْس: المرأة الشريفة عالية الهامة بشرفها وكرامتها).
الشيء الأعوج يبدو أقصر من الشيء المستقيم، الطويل. وعندما (نقوِّم ونجلِّس) اعوجاجه يصبح له قدٌّ وقامة أطول! أليس كل عالٍ مرتفعاً وطويلاً؟
أتخيلك يا بطرس البستاني، تغوص في أعماق (محيط المحيط) مستخرجاً صدفات اللؤلؤ المكنون. فطوبى لك غوصُك. وتبّاً لعابدي أصنام اللغة عبادة صمّاء عمياء بكماء!
* شاعر وناقد سوري
في لغتنا نجد أحياناً محاكم تفتيش لغوية تجرِّم من يخرج على إجماع كهنة اللغة. كما كانت محاكم التفتيش في العصور الجاهلية الأوروبية الإرهابية.
لدينا الفعل: قوَّم العصا أو العود... فالمعاجم العربية القديمة والحديثة (ماعدا معجما واحداً) أجمعت على أن (قوَّم) هو الفعل الصحيح لتقويم اعوجاج أي شيء بجعله مستقيماً ومعتدلاً.
لكن بطرس البستاني، وهو من أعلام النهضة العربية الحديثة الأفذاذ، انفرد في معجمه ( محيط المحيط) بذكر الفعل جلَّسَ العصا أو العود بمعنى قوَّم الاعوجاج فيهما.
وعلّق محمد العدناني في (معجم الأغلاط اللغوية المعاصرة) قائلاً: ولا أدري من أين جاءنا به صاحب محيط المحيط!
في بلاد الشام، ولا أعرف في غيرها، يستخدمون الفعل جلَّسَ العصا أو العود أو الرقبة المعوجة، أو القضيب المعدني عند البنّائين... بمعنى قوّم الاعوجاج.
فمن أين جاء البستاني بهذا المعنى؟ وهل في مادة (جلس) ما جعل البستاني يمارس الهرطقة اللغوية؟
نقرأ في معاجمنا القديمة عن (جلس):
جلس الشيءُ: أقامَ. وأقام العودَ والبناءَ ونحوهما: عدَّله وأزال اعوجاجه. (دققوا في هذه العلاقة بين جلس وجلَّس بالتضعيف وبين معنى الفعل أقام )!... وتقوَّم الشيءُ: تعدَّل واستوى. وكذلك الفعل استقام بمعنى اعتدل واستوى... وقائم الماء: بناء «مرتفع» يتوزّع منه الماء (محدثة). والقامة من الإنسان: «طوله». ورمحٌ قَوام وقِوام: مستقيم. والقامة من الإنسان: «طوله»، وحُسْن قدِّه.
و(جلس السحابُ) قصَد الجهاتِ «العالية». والجَلْس: الجبل العالي. والسهم الطويل. والجَلْسُ أيضاً: الغليظ «المرتفع والطويل» من كل شيء، والمرأة الشريفة. والشرف: الموضع «العالي» يُشرف على ماحوله. والشرفُ: العلوُّ والمجدُ. وفي الشعر: (لا يسلم الشرف «الرفيع» من الأذى، حتى يُراق على جوانبه الدَّمُ). إنه الشرف العالي السامي السامق الذي لا يعرف اعوجاجاً.
ونستعيد سؤال العدناني: من أين أتى صاحب محيط المحيط بفعل جلّسَ بمعنى قوَّم؟
نقول: بطرس البستاني استجاب للغة الحياة السماعية كمصدر من مصادر اللغة، وغاص في ظلالات معاني الجذور: قوم، وجلس، وشرف... لاحظوا القواسم المشتركة بين الفعلين قوّم وجلّسَ؛ ( وأُذكِّر بــ: جلَسَ الشيءُ: أقامَ. وأقام العودَ والبناءَ ونحوهما: عدَّله وأزال اعوجاجه)!
وتلك القواسم المشتركة هي: تعديل الاعوجاج، والعلو أو الارتفاع، والطول، والشرف بمعنى العلو والمجد (عودوا إلى الجَلْس: المرأة الشريفة عالية الهامة بشرفها وكرامتها).
الشيء الأعوج يبدو أقصر من الشيء المستقيم، الطويل. وعندما (نقوِّم ونجلِّس) اعوجاجه يصبح له قدٌّ وقامة أطول! أليس كل عالٍ مرتفعاً وطويلاً؟
أتخيلك يا بطرس البستاني، تغوص في أعماق (محيط المحيط) مستخرجاً صدفات اللؤلؤ المكنون. فطوبى لك غوصُك. وتبّاً لعابدي أصنام اللغة عبادة صمّاء عمياء بكماء!
* شاعر وناقد سوري
