No Script

من الكويت إلى دورتموند قطار «محترم»... عجوز بافاري... والمدرج الجنوبي

تصغير
تكبير
  • سائق تاكسي من أصول تركية - كردية اعتبر بأن أوزيل أخطأ في قرار الاعتزال وبأن لألمانيا فضلاً كبيراً عليه

لم تكن الرحلة التي نقلتني من الكويت إلى مدينة دورتموند الألمانية، مروراً باسطنبول وبرلين، في 10 نوفمبر الجاري، ضمن الخطط المرسومة للعام الجاري. وحدها الظروف لعبت دوراً في نقش ذكريات لن تنسى من هذا المشوار.
انطلاقاً من ميولي «الألمانية كروياً»، يعتبر الـ«كلاسيكو» («دير كلاسيكر» بالألمانية) بين بايرن ميونيخ (فريقي) وبوروسيا دورتموند الأهم، مع كامل الاحترام لـ«كلاسيكو ريال مدريد - برشلونة».
كان بايرن يعيش فترة صعبة بقيادة المدرب الجديد الكرواتي نيكو كوفاتش، ولاحت «الموقعة» امام دورتموند «المرعب هذا الموسم» في الأفق. وبالتالي، كان عليّ تحمّل عبء الرحلة الى المانيا، للوقوف في صف فريقي، وتسجيل شهادتي على «المباراة الأحب إلى قلبي».
لم تستلزم تأشيرة «شنغن» أكثر من أسبوع، حتى وجدت نفسي في الطائرة المتوجهة من الكويت فجر 10 نوفمبر الى برلين مروراً بتركيا.
كان الهم الوحيد متمثلاً في ألا يحدث ارتباك في إحدى الرحلات خصوصاً وأن المباراة تقام في يوم السفر نفسه.
سار كل شيء بسلاسة حتى بلغت العاصمة الالمانية وانتقلت بعدها الى محطة القطارات. لم يتركوا شيئاً للصدفة هؤلاء الألمان. كل شيء معد سلفاً لضمان راحة المسافر. كنت قد حجزت من الكويت رحلة القطار بين برلين ودورتموند عبر موقع إحدى شركات النقل. وفي الساعة 1:40 بعد الظهر كما هو مُشار إليه في التذكرة، وصل القطار السريع، في قلبي قلت: «كم أنت محترم يا قطار».
استلزمت الرحلة الى دورتموند 3 ساعات تقريباًَ، مروراً بهانوفر التي تعرفت اليها عبر النافذة. مدينة تجمع بين الطبيعة الخلابة وبعض الأبنية التجارية المترامية والمنازل «الدافئة».
في القطار، تدهشك سلاسة الركّاب التي تنعكس من سلاسة المسار. كل شيء معدّ هناك لضمان الراحة. والراحة هدف نهائي في ألمانيا. كنت لأتمنى أن تطول الرحلة لولا الموعد المضروب مع «المباراة الحلم»، وإن كانت المقاعد أمامي مكتظة بعدد من أناس كانوا يتكلمون وكأنهم لا يفعلون. كانت «الخطة» تشير الى ضرورة بلوغي دورتموند قبل ساعتين من المباراة المقررة عند الساعة 6:30.
الساعة هناك «لا تكذب». من محطة القطارات في دورتموند، إلى الفندق مباشرة. حتى الموظف في ذاك النزل أدرك، من دون حاجة الى ابلاغه، بأني في عجالة وبأن عليه القيام بالإجراءات سريعاً كي أتمكن من اللحاق بالمباراة.
دقيقتان وكان كل شيء منتهياً. ربما اعتقد لوهلة بأني مشجع لفريق مدينته دورتموند.
المهم أن أمري انكشف عندما نزلت الى بهو الفندق فرآني معتمراً قبعة حمراء حملت شعار بايرن ميونيخ، ووشاحاً باللون نفسه حمل صورة توماس مولر.
فور خروجي من الفندق، شعرت بأني «العدو المطلوب رأسه». الشوارع كانت ممتلئة بجماهير دورتموند «الصفراء». كنت الاستثناء، ولأقول الحق: خشيت على روحي، قبل أن أتذكر بأنني في ألمانيا.
سائق تاكسي من أصول تركية - كردية أقلّني الى ملعب «سيغنال إيدونا بارك». وفي الطريق، سألته عن موقفه إزاء قرار (التركي الكردي الأصل) مسعود أوزيل اعتزال اللعب مع منتخب المانيا على خلفية ادعاءات بـ«العنصرية».
لم يتأخر السائق، الذي لم يكن يعرف بأني صحافي أو بأن ميولي الرياضية ألمانية، في الدفاع عن ألمانيا قائلاً بأن أوزيل أخطأ في قراره وبأن ألمانيا لها الفضل الكبير عليه.
وتابع بأن المسألة أخذت بعداً أكبر مما تستحق وبأن «خطوة أوزيل» لم تحرك ساكناً لدى المهاجرين الأتراك الذين يعتبرون بأنها حالة فردية، مشدداً على أن «مسعود أحرجنا أمام الألمان».
وبين وطنية ألمانية لدى هذا التركي ونَهَمي لبلوغ الملعب، ما عدت اسمع شيئاً، خصوصاً عندما بدأت أضواء الاستاد العملاقة بالظهور. هنا انتقلت إلى عالم آخر وشعرت بأنني كنت أبحث منذ عقود عما وجدته الآن. حتى أن السائق ربت على كتفي ليوقظني من غفوة الدهشة. لا أتذكر أني شكرته على «التوصيلة». ترجلت من السيارة وسرت مع آخرين، فيهم الأصفر يطغى على الأحمر، وهو بالأمر الطبيعي كون المباراة تقام على أرض دورتموند.
سبق لي أن زرت ملعب «أليانز آرينا» في ميونيخ حيث شعرت أنني في بيتي. لكن هنا في «سيغنال إيدونا بارك»، الأمر مختلف، «نحن في أرض الأعداء»، هذا من منطلق تعصبي الدفين لبايرن، ولا أعتقد بأن الكثيرين ممن يرتدون الأحمر كانوا يحملون الشعور نفسه.
تذكرة المباراة التي كنت حجزتها من الكويت عبر أحد المواقع أردتها لـ«الجماهير الزائرة»، إذ لا يمكن أن أتصور نفسي جالساً بين مقاعد «الأعداء». زحمة خانقة على أبواب الدخول واللون الأصفر «أكل المكان». كيف لا وتذاكر المدرجات التي تتسع لـ81365 متفرجاً بيعت عن بكرة أبيها.
لا فوضى على المداخل العديدة للاستاد، بل قل إنه نوع من السباق للدخول وعدم تفويت أي لحظة من «مباراة الموسم».
كادت التذكرة في يدي أن «تتشوّه» من شدة تمسكي بها، إلى أن اصبحت داخل أسوار الملعب. الخطة المرسومة تسير بشكل مثالي.
بخطوات ثابتة، مشيت حتى بلغت بوابة تطل على الملعب بعشبه الأخضر البديع. يا لها من «لوحة». يا لها من أجواء. لا مجال لفوضى. حان وقت التقاط الصور من الجهات كافة، فـ«أنا هنا أخيراً» بعد رحلة شاقة.
لم اكترث بمن هو جالس أمامي، خلفي أو الى جانبيّ، المهم أن مَن حولي «بافاريين» يشجعون بايرن ميونيخ. كلنا يحمل هوية واحدة... في القلب. الكل يتقبل الآخر، سواء حمل ملامح أوروبية، آسيوية أم عربية. إنه السلام «غير المفهوم».
أجواء حماسية فرضها المذيع الرسمي في الملعب، ليس ترحيباً بالضيوف، بل تشجيعاً للاعبي دورتموند.
ما هي إلا 26 دقيقة حتى انفجرت مدرجات بايرن «الشمالية» بهدف البولندي روبرت ليفاندوفسكي.
مشجع كان جالساً أمامي اراد بعفوية أن يحتفل مع الجميع، استدار نحوي وأمسك بيدي وأخذ يرقص.
تمتم بالالمانية كلمات لم افهمها. قلت: «Ich spreche nicht Deutsch» (أنا لا أتكلم الالمانية) رغم إلمامي ببعض منها. لم يأتِني بردٍّ.
اكتفى «العجوز البافاري» بالإشارة الى أنه سيكلمني في ما بعد.
في استراحة ما بين الشوطين، سألني بإنكليزية «سيئة» عن بلدي، فقلت إنني لبناني أعمل في الكويت وقد أتيت خصيصاً إلى المانيا لمتابعة المباراة وبأنني «بافاري» منذ 1980.
شعرت بنوع من العاطفة تجاه هذا الرجل الذي تكبد رحلة طويلة من ميونيخ الى دورتموند، ونسيت مشقة رحلتي. رقص كثيراً لدى تسجيل هدف التقدم، غير أنه «انطفأ» في الدقيقة 49 عندما أحرز ماركو رويس هدف التعادل من ركلة جزاء.
هنا، عشت لحظات «تاريخية» ولمست لمس اليد ما قيل وما قرأت عن «المدرج الجنوبي» لـ«سيغنال ايدونا بارك».
يُعرف عن جمهور دورتموند اخلاصه لناديه، ويشتهر «المدرج الجنوبي» حول العالم بالصخب والتنظيم في التشجيع. ترى الجماهير فيه تتمايل معاً وتتفاعل بصورة غريبة. أطلقتُ عليه «مدرج الموت» من شدة سطوته على الملعب ككل.
عدد كبير من مشجعي بايرن أخذ يلتقط بكاميرات هواتفه تلك الجماهير المقابلة «المرعبة».
قبل هدف التقدم 2-1 لبايرن عبر ليفاندوفسكي نفسه في الدقيقة 52، حبست أنفاسي متذكراً بأن هدف رويس سُجل في المرمى نفسه الذي أحرز فيه فابيو غروسو هدف التقدم القاتل لإيطاليا على المانيا في الدقيقة 119 من مباراة الدور نصف النهائي لمونديال 2006. يا لهذا المرمى من ذكريات سيئة عليّ.

هدف «ليفا» الثاني أعادني من «نكسة 2006». تمر الدقائق، يتحسن أداء دورتموند. رويس نفسه ينتزع التعادل 2-2 في الدقيقة 67. مباراة مجنونة وعصيبة من دون شك.
انتابني شعور بأن دورتموند سيسجل الثالث، كيف لا وجماهير «المدرج الجنوبي» لا تهدأ. تشعر بأن صوتها يخترق قلبك. الاسباني باكو الكاسير يبصم في الدقيقة 73 على الهدف الثالث.
إنها الدقيقة الأخيرة من الوقت المحتسب بدل ضائع. بايرن يعادل النتيجة. لم أعد أعرف مع من احتفل وبحضن من ارتمي، لكن للأسف أن الحكم احتسب الهدف تسللاً، قبل أن يطلق صافرة النهاية.
حرصت على وداع «العجوز البافاري» الذي آلمه تقدم دورتموند على بايرن في الترتيب بسبع نقاط.
في الخارج، جماهير دورتموند تحتفل، ومشجعو البايرن لا يُسمع لهم حسّ.
بدأت الامطار بالهطول كما لو أنها أرادت اعلان نهاية «قصة مباراة رائعة».
كمشجع بافاري وفيّ، شعرت بمرارة الخسارة، إلا ان فريقي قدم الكثير لفوزٍ لم يُكتب له.
سرت بين الحشود باحثاً عن سيارة أجرة. رفعت رأسي فخراً لانني كنت جزءاً، ولو عابراً، من تلك المباراة.
وداعاً دورتموند... وداعاً لـ«المدرج الجنوبي»... أو فلنقل «إلى اللقاء».

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي