No Script

صخب على صخب

الموظف والخوف المصنوع

No Image
تصغير
تكبير

تدور أحداث قصة «موت موظف»، لأديب روسيا الكبير أنطوان تشيكوف حول الموظف البسيط «ايفان ديمتريتش كريبكوف»، الذي كان يشاهد إحدى حفلات الأوبرا، وكل ما فعله كريبكوف، أنه عطس، وهو الجالس في الصف الثاني في المسرح، ليفاجأ بأن الجنرال «شبريتسالوف»، وهو موظف من الدرجة الثانية في وزارة الاتصالات، كان جالسا في الصف الأول، وقد مسح وجهه ورأسه بعد عطسة كريبكوف، وتمتم بشيء.
 وكانت تلك الطامة الكبرى في حياة السيد «كريبكوف»، فقد ركبته الوساوس والظنون، وتخيل ما يمكن أن يفعله الجنرال معه، فاعتذر منه ساعتها، وتقبل الجنرال الاعتذار، مرددا: حسنا حسنا، ولكن هيهات، فالظنون أورثت كريبكوف رعبا، على الرغم من أن الجنرال ليس رئيسه المباشر، ولكن الأخير صاحب نفوذ.
عاد كريبكوف إلى منزله، وحكى لزوجته التي نصحته أن يذهب ويعتذر مرة ثانية، وهو ما فعله في الأيام التالية، في الأماكن التي يتردد عليها الجنرال، الذي عبر- في كل مرة - عن ضجره وضيقه بتمتمات غير مفهومة، وفي كل مرة تزداد محنة «كريبكوف»، وتتعاظم ظنونه، بأن الجنرال يدبر له أمرا. وتنتهي القصة بشعور كريبكوف بشيء ينهش أحشاءه. ومن دون أن يرى شيئا أو يسمع شيئا، غادر هائما، ووصل بيته بصورة آلية، ومن دون أن ينزع بدلته ارتمى على الأريكة ومات.
 انظر إلى سور الرعب الذي أنشأه «كريبكوف»، وثق تماما أن هناك ملايين أمثاله من الموظفين الصغار يرون السلامة في المزيد من النفاق لأولي المناصب.
***
 على جانب آخر، فإن بعض الموظفين الصغار، يحلمون بالوصول إلى قمة الهرم الوظيفي، ويكرسون حياتهم من أجل ذلك، فهم طامحون لمزاحمة علية القوم ولو بعض الوقت، ولا يرون في سبيل ذلك إلا الالتزام بالسلم الوظيفي، والطاعة المطلقة للرؤساء.
 وقد عبّر نجيب محفوظ عن ذلك في روايته القصيرة «حضرة المحترم»، مصورا حلم «عثمان بيومي» الذي التحق موظفاً صغيراً في قسم المحفوظات في إحدى إدارات الدولة، وحصل على شهادة البكالوريا ثم الحقوق معتمدا على نفسه بعد وفاة والديه الفقيرين، وطمح منذ البداية بأن يكون مديراً عاماً للإدارة، لينال لقب حضرة المحترم، ورفض في سبيل ذلك الزواج من اثنتين أحبهما في فترتين متباعدتين من حياته، لأنهما ليستا من عائلتين يمكنهما مساعدته في رحلته للصعود، ولا يجد سلوى له إلا بعلاقة مع سيدة بغي غانيةـ وبالفعل يترقى ليكون مديراً للإدارة، إلا أنه شعر بأن العمر مضى سريعا، فيقرر في لحظة يأس الزواج من الغانية، التي لم تتحمل روتين حياته وبخله، فتتركه، فيضطر إلى الزواج من سكرتيرته مصمّما على الإنجاب بأي سبيل، فقد اقترب من الإحالة إلى المعاش، ونهبت الأمراض جسده، وتكون المفارقة أن يأتيه منصب المدير العام وهو على فراش المرض، ولكنه يموت، بلا حب دافئ، وبلا ذرية، ودون الدوام وليوم واحد في منصبه المدير العام، فيحمل لقب «حضرة المحترم»، ويعيش لذته.
***
هناك أناس يعيشون في حيطان الخوف، ويتخيلون أن حياتهم بدونها لا معنى لها. وهم يرجون في ذلك رضاء الطبقة العليا في المجتمع. وتتسع النظرة أكثر، مع مجتمع الموظفين، حيث التراتب الوظيفي حاكم في العلاقات في هذا المجتمع. والذي يبدأ من صغار الموظفين، ثم ذوي المناصب الوسطى، وانتهاء بأصحاب الحظوة الذين يحتلون قمة الهرم الوظيفي. ولك أن تتخيل نظرة الموظف الصغير إلى من يعلوه مباشرة، فضلا عن نظرته إلى أصحاب الحظوة.
***
إنها مأساة كبرى، أن يعطي الله الحرية لعباده، ثم يصنعون حيطان ليسيروا بجانبها، متلذذين بخوف صنعوه. وقد أعطى مثل هؤلاء الفرصة لبعض الرؤساء ليمارسوا القهر عليهم، ويصنعوا لذة لهم، تتمثل في ممارسة المتعة السادية على الضعفاء. وهناك من يحلم أن يرتقي إلى مقاربة من هم في هرم السلطة، متنازلا عن متطلبات حياته، فيعيش ذليلا، ويموت وحيدا.

* كاتب وناقد مصري
mostafaateia@gmail.com

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي