No Script

خواطر تقرع الأجراس

قول على قول (3 من 3)

No Image
تصغير
تكبير

نتابع الحلقة الأخيرة مع هنري فردريك إميل في يومياته:
«إني أهلٌ لجميع الأهواء والنزوات؛ لأني أحملها في داخل نفسي، وأحفظها في الأقفاص، وأقيّدها بالأغلال، ولكني في بعض الأحيان أسمع زئيرها، وزمجرتها»!
 هذا هو الإنسان: تصارع أضداد...فكل تناقضات أو أضداد الطبيعة والكون والقيم السلبية والإيجابية... تتصارع في أعماقه فتنتصر أوتنهزم. وفي القرآن الكريم: «ونفسٍ وما سوّاها فألهمها فجورها وتقواها قد أفلح من زكّاها وقد خاب من دسّاها».
 ومن الناس مَن يهرب أو يتهرّب من الإصغاء إلى أصداء ذاته المزمجرة في دياجيرها خوفاً من السقوط والندم... ومنهم من يصغي إليها فيستجيب لنزواتها وأهوائها وينطلق معها لامبالياً بالمصير، يريد أن يعيش عمره دفعة واحدة وكأنه ومضة وهّاجة، لمحة خدّاعة، سرعان ما تتلاشى في لمحة عين وانتباهتها.. وهذا ما أدركه ونفّذه الشاعر (الوجودي) طرفة بن العبد فمارس ومضة حياته كما أراد.
 هنري كان مسرفاً في طلب الكمال، مغرقاً في المثالية: «الواقع يؤلم نفسي، ولست أستطيع أن أجد المثل الأعلى... وكتابة يومياتي ساعدتني على الهروب من الحياة لا على ممارستها»!
 لذلك (سجن) أهواءه ونزواته في أقفاص داخل نفسه. اعتقلها وقيدها بالأغلال! هذا الاعتقال يعكس خوفاً دفيناً من انطلاقها محقِّقةً حريتها كما يشاء لها الهوى. أراد أن يكون قديساً ! لكن هيهات، فهو قلِق، معذَب، يشتهي، ثم ينتهي عن الاشتهاء!. في بعض الأحيان يسمع زئيرها وزمجرتها تصرخ مطالبة بالانعتاق من المعتقل القسري المظلم في دياجي النفس: «أعطني حريتي أطلِقْ يديَّ». تُرى يخشى التجربة ؟ (ربنا نجّنا من التجربة) كما في الإنجيل. لعل تربيته المسيحية الصارمة قمعتْه صرَّح: «كنت ناسكاً... على الرغم مني»!
 فكيف الخلاص من زئير أهواء النفس وزمجرتها وأجراس الكنسية تقرع محذَرةً من السقوط؟
 إيليا أبو ماضي اعترف بصراع الأضداد في نفسه:
إنني أشهد في نفسي صراعا وعراكا
وأرى نفسيَ شيطاناً وأحياناً ملاكا
 وفوزي المعلوف في مطوَّلته: على بساط الريح، يصرّح بعبوديته للأضداد المتصارعة في ذاته:
إن جسمي عبدٌ لعقلي، وعقلي
عبدُ قلبي، والقلبُ عبدُ شعورهْ
وشعوري عبدٌ لحسّي، وحسّي
هو عبد الجمال يحيا بنورهْ
غير روحي، فإنها حرةٌ تمشي
بروض الخلود بين زهورهْ
هل فوزي المعلوف كان حرّاً بروحه حقاً؟ وهل كان هنري حرّاً أيضاً؟ هو يسمع، بل «يخشى» أن يسمع.. زئير النفس وزمجرتها... والاستجابة لها. وفوزي يعبر برؤية رومانسية مثالية مطلقة عن حرية الروح في روض الخلود! أليس هذا هروباً إلى عالم من اليوتوبيا (اللامكان) أو ادّعاء حالة النرفانا؟. أليس خوفاً، وتنكُّراً لثنائية الإنسان الطبيعية؟!
هنري: «كنت ناسكاً على الرغم». فوزي: «روحي حرة تمشي بروض الخلود»!
 الإنسان مشدود إلى شروط الزمان والمكان، والحقائق النفسية، والبيولوجية، والقيم الأخلاقية، والدينية، والكهنوتية القمعية... وكلها تفعل فيه الأفاعيل.
 فأين المفر أيها الناسك المقنَّع؟!

* شاعر وناقد سوري

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي