No Script

مثقفون بلا حدود

الفن القصصي في شعر أبي نواس (1 من 3)

No Image
تصغير
تكبير

استبصر فيما مضى، وفرتك خزائن حاضره، فلم يجد قافية إلا وقد طرقت من مثل «الوقوف والبكاء على الأطلال، مدح الناقة والفرس، الفخر والمدح، الإيمانيات والروحانيات، مدح الرسول صلى الله عليه وسلم، الغزل بشقيه العذري والصريح، الشعر السياسي، شعر النقائض والهجاء، شعر المديح والتهليل والتبجيل، الشهر الصوفي والزهد»؛ إذن أين سيقف أبو نواس بشاعرتيه المتدفقة، وعواطفه الجامحة، وإحساساته الدافئة بالمرئيات والمسموعات؟ أين هو من هذا كله؟ كيف سيقول ها أنا ذا؟ سيبويه قال ها أنا ذا، وعبدالله بن المقفع قال ها أنا ذا. فهل من جديد لشاعرنا أبي نواس؟ نعم دائما هناك جديد، ألم يقل أبو العلاء المعري:
وإني وإن كنت الأخير زمانه
لآت بما لم تستطعه الأوائلُ
فها هو أبو نواس يضرب عصفورين اثنين بحجارة واحدة، أولا: تطرق إلى موضوع الخمر والخمارة، وهو غرض شعري لم يتناول من قبل، فأبدع في التصوير، وتألق في الوصف، وملك ناصية السرد القصصي في قالب شعري تحكمه الأوزان والقوافي والروي، وتوغل في إبراز فوائد الخمرة ومحاسنها حتى ليظن ظان أنه قد ولغ منها حتى الثمالة، والثمالة هي النسيان، والنسيان يتعلق بالأمر الآخر، والأمر الآخر هو: ردة فعل للنكسة التي مني بها الموالي بالعرق العربي الذي لم يعمل بقوله تعالى: «يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير» الحجرات: 13.
فلما بدت العنصرية، أو قل النعرة العربية واضحة، جاءت النتائج سلبية من الموالي، فانتفضوا لإنسانيتهم المسلوبة، وكرامتهم المهدورة، مما أدى إلى اتهامهم بهتانا وزورا تارة بالزندقة وتارة بالشعوبية، وتارة بالفجور والمجون ومعاقرة الخمرة، وهذه الأخيرة اتهم بها شاعرنا أبو نواس، وأظن بأن أبا نواس ليس ممن يعاقر الخمر، وليس ممن يتردد على الخمارة، ولكن مرد ذلك إلى أحد أمرين؛ إما أراد أن يقول: ها أنا ذا بشاعريته، وإما أراد أن يستفز العرق العربي بسبب إقصائهم وتهميشهم واضطهادهم للموالي الذين يرون فيهم بأنهم أقل درجة من العرق العربي، أستدلُ على ذلك بأن خمريات أبي نواس تكاد تكون متشابهة حتى في ألفاظها؛ فهي عبارة عن قصص قصيرة جدا، أو قل حكايات تبدأ من منتصف الليل وتنتهي قبيل الصبح، اعتمد فيها على مقومات القصة وعلى أنه يقول ما لم يفعل، وهنا أذكر ما أنشده الفرزدق في حضرة سليمان بن عبد الملك الأموي، قائلا:
ثلاث واثنتان فهن خمس
وسادسة تميل إلى شمام
فبتن بجانبي مصرعات
وبت أفض أغلاق الختام
وكأن مفالق الرمان فيه
وجمر غضا فعدن عليه حام
فقال له سليمان بن عبد الملك: قد أقررت عندي بالزنا وأنا إمام، ولابد من إقامة الحد عليك، فقال الفرزدق: ومن أين أوجبت علي يا أمير المؤمنين؟ فقال بقوله تعالى: «الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مئة جلدة» سورة النور:2. فقال الفرزدق إن كتاب الله يدرؤه عني بقوله تعالى: «والشعراء يتبعهم الغاوون * ألم تر أنهم في كل واد يهيمون * وأنهم يقولون ما لا يفعلون» سورة الشعراء: 226،225،224. فأنا قلت ما لم أفعل، فتبسم سليمان، وقال: أولى لك.
 أنشد أبو نواس:
وخمارة للهو فيها بقية
إليها ثلاثا نحو حانتها سرنا
والليل جلباب علينا وحولنا
فما أن ترى أنسا ولا جنا
يسايرنا إلا السماء نجومها
معلقة فيها إلى حيث وجهنا
إلى أن طرقنا بابها بعد هجعة
فقالت من الطراق قلنا لها إنا
الحدث المتكامل (مقدمة، ذروة، نهاية)
مقدمة: سار أبو نواس مع اثنين من صحبه على الأقدام من أول الليل إلى خمارة في آخر البلدة، لمعاقرة الخمرة التي كانت شغله الشاغل، وأثناء سيرهم وصف كيف كانت الليلة مظلمة، وقام بتشبيه ظلمتها وكأنها جلباب وهو الثوب السميك الذي يحجب الرؤية، وهي دلالة على أن سواد هذه الليلة حالك، فعلى الحقيقة فإن عدم الرؤية هي ستر، والستر هو حياء، هذه البداية المثيرة تشد انتباه السامع إليها لمواصلة أحداثها. وعلى المجاز فإن هذه الظلمة هي مستقبل الموالي في ظل مخالفة تعاليم الإسلام بالمساواة بين كافة الناس.
ونتساءل هنا: لماذا قالت من الطرّاق ولم تقل من الطارق؟ لعل أبا نواس أراد أن يخبرنا بأن الخمر والخمارة من الممنوعات آنذاك، فهم في ربكة وخوف وحركة غير عادية وغير مألوفة تكشف بأن الذي يقف على الباب أكثر من شخص، فلم يكن الذهاب إلى خمارة بهذه السهولة.
يقول أبو نواس:
شباب تعارفنا ببابك لم نكن
نروح بما رحنا إليك فأدلجنا
فإن لم تجيبينا تبدد شملنا
وإن تجمعينا بالوداد تواصلنا
فقالت لنا أهلا وسهلا ومرحبا
بفتيان صدق ما أرى بينهم أفنا
هذا الحوار له معنيان: الأول على اعتبار أنه بين الخمارة والندامى، والمعنى الآخر هو بين الموالي والعرب. حوار يزيل الشك والريبة، ويبدي حسن النية، ومصداقية التعامل، بدليل أن السؤال للجمع والإجابة جاءت من الجمع، فلم تنبري الشخصية الرئيسة بعد في هذه الحكاية؛ فهناك تحفظ واضح من كلا الطرفين، ولكنّ أبا نواس وصحبه أبدوا حسن النية حينما أجابوا الخمارة بنفوس منكسرة تشحذ عطف الخمارة عليهم، حتى تطمئن وتدخلهم. فهل الدخول هنا للخمارة أم الدخول للمجتمع العربي والانصهار في بوتقته بالوداد ولم شمل جميع المسلمين بعيدا عن التخوين... وللحديث بقية.

* كاتب وباحث لغوي كويتي
fahd61rashed@hotmail.com

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي