خواطر تقرع الأجراس

سحر الفنون والأخلاق

No Image
تصغير
تكبير

تجلى السحر عبر الإيقاع في تعويذات الإنسان البدائية: كاهناً وساحراً وشاعراً. وتجلى أيضاً في رسوماته البدائية الجدارية الكهفية قصائدَ صامتة لغتها اللون، وصورها الفنية الخيال الطفولي، ووجدانياتها الروح الإنسانية البدائية.
 ونجد السحرية الكهنوتية الطقوسية متغلغلة في جميع مظاهر الفنون البدائية بشعرية إنسانية فطرية. تجلت في لغة الأساطير والخرافات وسجع الكُهّان، كما في تاريخنا الأدبي الجاهلي حين كان التراث الشعري في الجاهلية الأولى مرتبطاً بالجن والسحر (شياطين وادي عبقر). من هنا نفهم قول الحديث الشريف «إن من البيان لسحراً».إنه سحر الجمال الفني، لا سحر عوالم الجن وشياطين الشعر.
 سحر الشعر ارتبط بسحر الغناء وتأثيرات الألحان؛ فنشأ الشعر الغنائي قديماً. وغُنَّيت الأشعار في المعابد، وفي المسرحيات الدينية عبر الجوقة، كما في المسرح الإغريقي، وفي الكنائس، ورُتِّلت الأناشيد والمدائح النبوية في كثير من المناسبات الدينية.
 وتشعر بهذه اللغة السحرية الشعرية الغنائية عند قراءة أناشيد إخناتون الفرعونية التوحيدية، وكتاب الموتى، وأشعار الإلياذة والأوديسا الإغريقيتين، والرامايانا والمهابهاراتا الهنديتين، والشاهنامة الفارسية، وملحمة جلجامش الأكادية... هنا تكمن جذور اللغة السحرية، والخيال الآسر، والمشاعر الفيّاضة... وكل هذه الملاحم والأساطير تُرجِمت إلى العربية. ورغم أن الترجمة خيانة، بحسب دانتي، فإنك تشعر بأجوائها السحرية كما تُسحَر بعوالمها الشعرية!
 ثم جاءت الكتب الدينية المقدسة مشحونة بسحرية لغوية بلاغية سامية: مزامير داوود، وتعاليم السيد المسيح، ورؤيا يوحنا... وأخيراً سحر بلاغة القرآن الكريم.
 وتختلط قضية سحرية الشعر بقضية الخير والأخلاق! فهل لمقولات الأخلاق سحر جاذب للإنسان كسحر الشعر؟أم أن النفس البشرية تتوق إلى تنشُّق عبير «أزهار الشر» كما عنوَن بودلير أحد دواوينه المثيرة ؟
 قال ابن خلدون: ظللنا نسمع أن من يحاول القول في الزهديات والربانيات والنبويات يسقط سقوطاً ذريعاً. فهل الأخلاقيات تُسقِط فنيّة سحر الشعر ؟ للأصمعي قول مشهور: الشعر إذا أدخلتَه في باب الخير لانَ!! فهل للشعر سحر مؤثر في تجميل الشر؟ هل خمريات أبي نواس وغزليالته مثل زهدياته (فنياً)... لا أخلاقياً؟
 عبدالله القصيمي في «العالم ليس عقلاً» يقول: «الإنسان شاعر يقول الشعر ويسمعه ويغنيه، لكنه لا يريد، ولا يستطيع، أن يحياه، بل يقوله فقط. ولو فُرِض عليه أن يحيا ما يقول لقاومه!. والنظريات الأخلاقية هي نوع من الشعر الذي يقال لمجرد القول!... إن الشعر والغناء والعقائد المستحيلة التطبيق هي الجسور النفسية التي يعبر عليها البشر إلى غير ما شيء... إلى التيه النفسي المسحور»!
 كلام غريب مثير: سحر الأخلاق سحر فني فقط يعادل سحر الشعر وسحر الأغاني من دون غايات أخلاقية.
والمشكلة الكبرى: هل يحيا الإنسان حقاً تعاليم الأديان السامية، والقيم الشعرية النبيلة، ومبادئ الأخلاق الفاضلة، وأهداف الغناء الوجداني الذي يغنيه ويتغنى به؟
هل حقّاً نحن مسحورون بالفنية الجمالية (فقط) لهذه القيم، وغارقون في «تيه نفسي مسحور»، دون القدرة (على ممارسة) تلك القيم؟: ألم يقل الحديث النبوي الشريف «القابض على دينه كالقابض على الجمر»؟

* شاعر وناقد سوري

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي