No Script

مثقفون بلا حدود

«النص وما وراء النص» لفتحية الحداد (2 من 2)

No Image
تصغير
تكبير

ترى الكاتبة الكويتية فتحية الحداد «بأن عنوان المسرحية هو التزام من المؤلف لعقد ضمني بينه وبين الجمهور، وأنه - العنوان - بمثابة الدعوة التي تؤثر في قرار الفرد وذهابه إلى المسرح» أ.هـ ص 87.
وقد أصابت الكاتبة كبد الحقيقة برؤيتها هذه وذلك من خلال إطلاعنا على بعض الصحف اليومية؛ فبمجرد أن ترى عنوانا مميزا يرغمك على قراءة المقال، وقد يكون هناك مقال ذو مضمون جيد إلا أن كاتبه قد أخفق باختيار العنوان المناسب له؛ فبالتالي صرف القارئ عن قراءة مقاله، كما أن فتحية لفتت نظري لمصطلح جديد «العقد الضمني» بين الكاتب والمتلقي من خلال العنوان، وطرفا العقد هما الكاتب والمتلقي، فالكاتب اشترط على نفسه بهذا العنوان أنه سيقدم عملا جيدا يليق بعقلية المشاهد ويحترم ذوقه، وليس كما نرى في كثير من الأعمال المسرحية يستخف الكاتب بعقولنا كمشاهدين لهذا العمل، والطرف الآخر المتلقي هو من سوف يحكم على هذا العمل بعد مشاهدته وهو من يضع له قيمة تستحقه، ولا نغفل أن المسرح هو فن أدبي يخضع للذوق العام، والذوق العام يتفاوت من مشاهد إلى آخر.
وترى الكاتبة فتحية الحداد، بأن (العنوان خاتمة لتشكيل وعي الجمهور)، وقبل أن أذكر رؤية الكاتبة الكويتية فتحية الحداد، أود أن أقول إن النصوص الأدبية متداخلة مع بعضها في بنيتها ولعلها متشابهة في كثير من السمات؛ فـ (فن الخطابة) - مثلا - يبدأ الخطيب برأس الموضوع، ثم يقوم بتفصيصه إلى عنوانات جانبية أو قل فرعية، ثم بعد ذلك يقوم بشرحها وتفصيلها وتكييفها بحسب الوقت المتاح له مدعما ما يقوله بالحجج والبراهين والأدلة والشواهد، وحين يصل إلى خاتمة الخطبة يعود مرة أخرى لذكر رأس الموضوع ليربط المستمعين بالخطبة، وبذلك يكون قد أدرك الغاية المرجوة من إلقاء هذه الخطبة.
ولو طبقنا ذلك على ما رأته الكاتبة فتحية الحداد حيث تقول: «في هذه المسرحية يختار المؤلف عبارة (عتيج الصوف ولا جديد البريسم) لتكون عنوانا للمسرحية، ولتكون أيضا الجملة الأخيرة في النص، وما بين النص والعرض يظهر تأثير العنوان في العمل وبنسب متفاوتة وبأكثر من صيغة ليؤثر في علاقة المتلقي أو الجمهور بالعنوان ويؤثر في بناء النص وترتيب المشاهد ومعالجة الموضوع واعتبرت العنوان خاتمة لتشكيل وعي الجمهور» أ.هـ ص 86.
وبطرح متخصص في علوم المسرح الأكاديمي تبدأ الكاتبة الكويتية فتحية الحداد، بتطبيق رؤيتها قائلة: «(عتيج الصوف ولا جديد البريسم)، مثل شعبي اختاره المسرحي حسين الحداد ليكون عنوانا لمسرحيته التي تولى أيضا إخراجها لتعرض على خشبة مسرح كيفان في مارس 1967م، ضمن أعمال فرقة المسرح الكويتي، النص يتناول جانباً اجتماعياً تمثله عائلة بسيطة: جاسم متزوج من عائشة ولديهما ولد وابنة ورضيع، يعيشون في بيت عربي: في الغالب في حي قديم من الأحياء الكويتية، الزوج يعمل في دائرة ومرتبط بساعات عمل وبإكمال تعليمه أيضا للخروج من عيشته المتواضعة، وحين يصير المال في يديه يسكن منزلا جديدا ويهجر عائشة لاعتقاده أنها لم تعد تناسبه مفضلا الارتباط بأخرى يرى فيها التحضر، ولكنه يصطدم بعدها بالواقع لأن الزوجة الثانية ماجدة أخذتها المدينة وشغلتها الحفلات، فلا تهتم بشأنه كزوج ورفيق، فيكتشف أنه أخطأ حين توسم الخير في (جديد البريسم) زوجته الجديدة وكان الأجدر به الاحتفاظ بـ(عتيج الصوف) زوجته الأولى» أ.هـ ص 19.
تجدر الإشارة أن «لفظة (عتيج) هي في الأصل (عتيق) قلبت القاف جيما في اللهجة الكويتية، مثل (جدامك) تعني (قدامك) أي أمامك، ولفظة (عتيق) أصبحت رمزا يدل على الأصالة والعراقة والعادات والتقاليد، ولعلي أجد نفسي مجيبا عن الاثنين معا القديم وهو التقليدي أو الكلاسيكي الذي يرمز إلى الأصالة، والجديد وهو المعاصر أو المدنية ويسمى أيضا بالحداثة - ولا سيما - مثل قالب الشعر في قصيدة النثر ومقومات القصة ونظرية التجريب والتغريب، لذا سوف انطلق من مقولة (الجديد يولد من رحم القديم)، فعلى المتشبثين في القديم ألا يرفضوا كل ما هو جديد يثري الساحة الأدبية وينشط أدواتها، وعلى المنادين بالجديد ألا ينبذوا القديم؛ فالقديم هو الأساس الذي نبني عليه نظريات جديدة، نحن بحاجة إلى إضافة على هذا الأساس وليس هدم الأساس بمعول الجديد.
صنفت الكاتبة فتحية الحداد (الصمت) لغة من لغات المسرح، وترى إن المراحل التي يمر بها الممثل لتكوين الصورة المتكاملة عن الشخصية تستند في الأساس الى قراءة دقيقة، فاحصة لحوار الشخصية وتمعن في ما يعكسه هذا الحوار من انفعالات، هذه الانفعالات قد تولد لحظات صمت لا يشير إليها المؤلف ولا تظهر في النص، قراءة لحظات الصمت هي جزء من عملية تلق تعنى بمتابعة ما بين السطور وقراءة ما بين كلمات السطر الواحد، فالصمت أو السكون قد يمثل جزئية مهمة من العرض المسرحي وهي جزئية قد لا تظهر في النص، وإن ظهرت فإن طبيعة هذا الصمت وإيقاع ذاك السكون يحدده المخرج من ناحية والممثل من ناحية أخرى» أ.هـ. ص 41.
لربما أرى خلاف ما تراه الكاتبة فتحية الحداد، حول (لغة الصمت)، وأرى أن كتابة المسرحية مهارة لا يتقنها إلا الكاتب المسرحي، فهو المعني بدقيقها قبل عظيمها، وعليه أن يصف الأشياء بدقة متناهية، وأن يضع أدواته المسرحية في محلها بإتقان، وعليه أن يلتف حول الشخوص مراعياً كل شخصية وما تحمله من أبعاد فكرية وعقائدية واجتماعية و سياسية واقتصادية... إلخ، وكل ذلك لا بد أن يكتب على الورق، فإن كان المشهد يتطلب صمت الممثل يذكر ذلك كاتب المسرحية قائلاً (هنا يجب أن يسكت الممثل قليلاً مع الإيحاء بالرفض أو القبول وغيرهما - مثلاً -) فكما يقال (الصمت في موضع الصمت كلام)، كما أن الصمت له دلالات عدة منها الرضا والقبول ومنها الرفض ومنها الامتناع عن إبداء رأي أو وجهة نظر إذا وجد بأن مستوى الحوار لا يرقى إلى مفهومه، وإذا وجد من يحاوره حواره عقيماً، فالصمت في بعض الأحيان يعالج كثيرا من المشكلات، وكما أن هزم الخصوم هو العمل بصمت، فالصمت لغة - نعم - ولكن على الكاتب أن يراعي مواقع الصمت ويذكرها في كتابة المسرحية مهما علت قدرة الممثل حساّ، ومهما كانت مهارة المخرج في قيادته لإخراج النص المسرحي.

* كاتب وباحث لغوي كويتي
fahd61rashed@hotmail.com

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي