No Script

نقد / الوأد الثقافي... في رواية «كبرت ونسيت أن أنسى» لبثينة العيسى

تصغير
تكبير
انتهى عصر الوأد منذ زمن طويل، ولكن بقيت أشكال خفية ومضمرة للوأد التي تتشابه في فكرة وهدف ودوافع الوأد في العصر الجاهلي بينما تختلف في الطرق والأشكال والمواضع. كان الوأد يمارس في الجاهلية خوفا على شرف القبيلة والجماعة الإنسانية لكي يسير الرجال مرفوعي الرؤوس بين الجماعة. واليوم تحافظ جميع أشكال الوأد على فكرة المحافظة على القيم الذكورية في المجتمع وتشدد على ضرورة تماسكها نتيجة لصراع محتدم بين الوعي واللاوعي الجمعي عند الشعوب العربية يرفض الدخول في حالة فقدان الذكورة الرمزية. فعندما يمنع رجل امرأة من حقها في الوظيفة والتعليم والكتابة والإبداع فالسبب المهيمن على فكرة المنع هو الخوف على اسم وشرف الأسرة من أن تلوكه ألسنة الناس، ولكن هذا لا يعني ألا توجد أسباب كثيرة أيضا من مثل الغيرة والحسد أو عدم الثقة بنجاح المرأة تقف خلف هذا الوأد.

ما أود الحديث عنه اليوم بشكل مركز ومكثف هو فكرة الوأد الثقافي وأقصد به منع المرأة المثقفة من القراءة والكتابة والإبداع وبالتالي منعها من الظهور بوسائل الإعلام المرئي والمسموع. وهنا نجد المجتمع الذكوري يمنع ظهورها خوفا من الفضيحة الاجتماعية وهذا المنع أشبه بحالة قتل لوجه من وجوه المرأة وهو ممارسة دورها الثقافي في المجتمع. وفي التاريخ العربي الحديث نماذج متعددة لنساء تم وأدهن ثقافيا، وهذا الوأد أدى بشكل من الأشكال إلى موتهن، قد تكون الأديبة اللامعة مي زيادة أبرزهن، وأسمهان التي كان رفض فنها من قبل الجماعة والعشيرة عاملا مؤديا إلى التخبط في قرارات حياتها وتقلبات شخصيتها فقتلت بحادثة مدبرة من قبل مجموعة من الأطراف.

منع المرأة المثقفة من الكتابة والإبداع في مجالات متعددة هو ما أقصده بمصطلح الوأد الثقافي، وقد يهمش كلا من المرأة أو الرجل في مجال ما بسبب قضية علاقات القوة في الوسط فهذه قضية تهميش وليست صورة من صور الوأد الثقافي. هناك رد اعتباطي دوما يوجه لنا على حد السواء هو أن المرأة نالت الكثير من حقوقها فلم الكلام عن قضايا المرأة. طبعا مثل هذا التناول السطحي لقضية المرأة يقودنا إلى الرد بأنه إذا كانت هناك مجموعة من النساء نلن الكثير من حقوقهن هذا لا يعني أن البقية يستطعن تحقيق نصف ما حققته المرأة المتحصلة على حقوقها بدعم من أسرتها وبمباركة من مجموعة الرجال التي تحيط بها، وبالتالي علينا البحث في الجزء المهمش والمنسي والمغلوب على أمره من هذه المجاميع النسائية المغيبة.

حقيقة، هذا الموضوع ظهر بكثير من الأعمال الخليجية، لتعبر عن موضوع القمع ومنع المرأة من ممارسة دورها الفكري في المجتمع. ومن الأبيات الشعرية التي تمثل حالة الوأد الثقافي هو قول الدكتورة سعاد الصباح:

هل تستطيع امرأة

في زمن الإحباط والكآبة

أن تدعي الكتابة

وكل شيء حولها مذكر

السيف في قاموسنا مذكر

والفكر في تاريخنا مذكر

والشعر في آدابنا مذكر

تبدو الأسئلة النسوية التي طرحتها كل من سعاد الصباح وليلى العثمان حول حق المرأة في الكتابة والتعبير عنها تظهر بإبداع الأجيال اللاحقة من الكاتبات الكويتيات من مثل الروائية الشابة بثينة العيسى، التي اتضحت هذه الرؤية بشكل كبير في رواية «كبرت ونسيت أن أنسى» فهذه الرواية هي مزيج رائع من روح سعاد الصباح الشعرية الثورية المتمردة وقصص ليلى العثمان العميقة في رسم صور قهر النساء المتعددة. ولكن العيسى عبرت عن نوع من القهر موجه للمرأة في الثقافة الأبوية الخليجية مشابه لما طرحته أسلافها من المبدعات، بيد أن التفاصيل التي تنطلق منها العيسى هي تفاصيل تنتمي لجيل الكاتبة هذا الجيل الالكتروني جيل الهاتف والكمبيوتر والسي دي. مما يعني أن نفس طبيعة الأسئلة قد طرحت ولكن بتفاصيل زمن مختلف.

تبدأ معاناة بطلة الرواية عند موت والديها بحادث مروري فيكون هذا الحدث المفاجئ هو الحدث المفصلي في حياة الساردة الذي يغير خريطة مستقبلها بشكل كبير، إذ انها تنتقل إلى وصاية أخيها صقر المتشدد دينيا، فمنذ دخولها للمنزل تصدم بواقعها الجديد، تتحول إلى السرداب فتصبح كائنا ثانويا وهامشيا في حياة الأسرة الجديدة، يقطن السرداب. للسرداب هنا دلالة مهمة وهي وفق تأويلي الخاص أنها تبدأ بكتابة حفريات القهر الأنثوي، تصور الساردة معاناتها الشخصية منذ البداية، بداية الألم ونهايته عبر تجربة طويلة من التفاصيل المؤلمة، وهنا نعود للسرداب مرة أخرى لنراه الجزء الخفي من المنزل، وهو الجزء الخفي من شخصية أخيها صقر، إذ تحاول تعريته من خلال ما عايشته من تفاصيل قاسية جدا معه.

صقر رمز الثقافة الأبوية الدينية المتشددة يمارس سلطته على البطلة ويحاول باعتباره ممثلا للمؤسسة العقابية والرقابية المسؤولة عن حماية الأسرة أن يقوم اعوجاج الشخصية التي تحلم بأحلام بسيطة أن تعيش حياة خالية من التعقيدات: تشاهد التلفاز وتقرأ كتب الأدب، والشعر، وتذهب للسينما وغيرها من التفاصيل العادية التي أصبحت مستحيلة عليها. إذ تقول:

«يفتش حقائبي بحجة البحث عن علكة، يتفحص هاتفي بحجة البحث عن رقم هارديز، وليراجع تاريخ تصفحي في الكمبيوتر ليتحقق من أنني لا أحيد عن صراط الفضيلة ولا أتحاور مع رجال في الفضاء السيبيري وهو يقوم على حراسة شرفي كالكلب تماما باستثناء أن الكلب أكثر محبة».

مثل هذا الاقتباس اقتباسات عديدة منتشرة في الرواية للساردة عن شخصية صقر تفلح فيها في تعرية مواقفه، ورسم صورة كاريكاتيرية ساخرة جدا من النماذج المتشددة في المجتمع.

عبرت الرواية عن صراع هويات وأفكار وتصورات، فلو كانت البطلة قادرة على أن تشبه الجماعة وتتقارب رؤاها معهم لما حدثت مشكلة، ولكنها عبرت عن هوية مغايرة مختلفة ورغبات تتصارع مع رغبات الأخ بوصفه حارسا للعادات والتقاليد.

بلغة شاعرية تحلل البطلة لغة ومواقف الأخ العنيفة ضد الساردة، وبالتناوب تحلل أثر الكلمات الجارحة على شخصيتها، فالخطاب اللغوي عندها هنا خطاب المشاعر والأحاسيس والأثر النفسي للعنف اللغوي والمادي: «لم يكن مسموح لي أن أكون أنا وكانت مواعظ صقر تصب في مشروع تفتيتي، وفي طمس اختلافاتي التي تزعجه».

معاناة الكاتبة مع صقر متعددة الجوانب وكثيفة الطبقات تمثل تفاصيل عديدة لفكرة الوأد الثقافي فلا تستطيع أن تقرأ ما تريد من كتب ثقافية، ولا تدرس الفرنسي. ولا تستطيع إعلان أنها تكتب الشعر، محاولة منها للتعبير عن ذاتها والرد على غياب فرض عليها منذ سنين. وعندما يكتشف أنها تقيم أصبوحة شعرية يأتيها وينهال عليها ضربا أمام الحضور ويحولها من مرحلة وأد ثقافي إلى نوع آخر من الوأد بحرمانها من الدراسة وتزويجها. وهنا الساردة بهذا البعد تكشف عن المناطق المسكوت عنها للإبداع الأنثوي، ولدهور من الصمت والغضب، طال بها، وقد تحدثت عنه فرجينا وولف في «الغرفة»، واصفة إياه «بالصمت غير الطبيعي» الناجم عن ولادة المرء في طبقة أو عرق أو جنس غير ملائم، أو الحرمان من التعليم، أو فقدان الإحساس في ظروف اجتماعية شاذة، أو كتمان الصوت بسبب الرقابة، أو الإعاقة بسبب متطلبات التربية، أو السكوت بسبب الضغط والإرهاب السياسي.

وجميع ما سبق من أمثلة عديدة في نص سعاد الصباح أو بثينة العيسى يبين رؤية النص بأن المرأة نكرة، مجهولة، وهذا التنكير المستمر يؤدي إلى تشيؤ المرأة في فضاء ذكوري، ويحيل إلى رجل بأدوار بطولية ديناميكية متغيرة في الأزمنة المتعددة، بينما المرأة لا تقوم بأي حركة لها في التاريخ، بل يتم تسليعها في مزادات الرغبة، ودور النخاسة سواء يتم نقلها في هودج أو تعرض كسلعة جاهزة في زمن الإقطاع أو حتى في الرأسمالية.

* كاتبة وناقدة وأكاديمية كويتية
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي