No Script

مشاهد / رمضان بين محفوظ والسعدني

| u064au0648u0633u0641 u0627u0644u0642u0639u064au062f |
| يوسف القعيد |
تصغير
تكبير
علم نجيب محفوظ أن محمود السعدني يعاني من مرض خطير، سألني فقلت له إنه اكتشف مرضه بالسكري، وفي اليوم التالي وأثناء وجوده في الأهرام، اتصل محفوظ بالسعدني للاطمئنان عليه، وفي هذا الاتصال تم الاتفاق على لقاء.

بعد الإفطار جاء إلينا السعدني حيث نجلس كل ثلاثاء، ثم انتقلنا إلى كافيتريا نافع بشارع فيصل بالهرم، ومنذ ما بعد الإفطار وحتى السحور، جرت ثرثرة رمضانية حرة طليقة، هذا بعض ما قيل فيها.

حضر اللقاء وشارك فيه عدد من أهل الصحافة والفكر والسياسة والأدب، وعشاق نجيب محفوظ، وبعيدا عن الألقاب ومع حفظها.. كان معنا: مصطفى الفقي... عبدالمجيد محمود... توفيق صالح... عماد العبودي... جمال الغيطاني... طوغان... فؤاد علام... فؤاد الغمراوي... إبراهيم نافع... علي والي... عاصم حنفي... محمد هاني.

لم يكن نجيب محفوظ ميالا إلى فكرة الذهاب، فالرجل لا يحب تغيير عاداته بسهولة، ويمضي عليه وقت طويل قبل أن يألف الوجوه والأماكن الجديدة عليه، ولكن تصميم السعدني لا يرد. وهكذا كان.

سأل نجيب محفوظ السعدني: كيف الصحة يا محمود؟! قال السعدني إنه لا يجري أي تحاليل منذ أن أجراها واكتشف السكري. والطبيب طلب منه تنظيم الطعام والابتعاد عن ثلاث: «النشويات والحلويات والدهون»، وقد بدأ التنفيذ فورا. وكانت النتيجة أنه لا يتناول أي طواجن في طعامه وكانت ركنا أساسيا من قبل. إضافة من عندي: كتب محمود السعدني بعد هذه المحنة كتابا من أجمل كتبه عنوانه: وداعا للطواجن. تكلم فيه عن الأكل ومشاكله وهمومه بعد أن حُرِم من نعمة الطواجن. ومن يعرفون السعدني سيكتشفون أنه طباخ ماهر، وفي أيام غربته تعلم الطهي، ولعاصم حنفي حكايات طويلة معه في الوقوف في المطبخ وإعداد الوجبات لهما، ولديه تفاصيل عن مهارات السعدني في الطهي. علاوة على مهارات أخرى كثيرة منحها الله له.

وقال جمال الغيطاني: هذا ما جرى بالتحديد لسليم علوان في رواية: «زقاق المدق» عندما مرض توقف عن تناول الطواجن بعد مرضه. قال نجيب إنها لم تكن طواجن ولكن صواني تعد في الفرن، سأل السعدني: ولماذا كانت توضع فيها جوز الطيب؟ ضحك نجيب: جوز الطيب هو الذي كان موجودا وقتها.

قال السعدني لنجيب محفوظ إنه يطلب منه أن يكون المتحدث الرئيسي طوال الجلسة، ورجاه ألا يقوم من مكانه عند السلام على من يحضرون، فقد لوحظ أن نجيب يقف قبل السلام على أي وافد جديد ورغم هذا التحذير فإن نجيب لم يستطع السلام إلا بعد الوقوف.

نسى السعدني ما قاله بعد دقائق. وأخذ ناصية الكلام. واشتعلت الكلمات من بعضها وتدفق في الحكي. فالسعدني آخر الأدباء المتكلمين. وكلامه تراث لا يقل عن كتابته أهمية في التعبير عنه، وعندما ذكّره جمال بأن المتحدث هذه الليلة هو الأستاذ فقط، قال السعدني إنه طلب من الأستاذ الحديث إن استطاع إليه سبيلا.

لكن تغيير المكان – فنحن الآن في مندرة إبراهيم نافع – وعاصفة الوجوه الجديدة، وارتفاع حرارة الترحيب التي اقتربت من المظاهرة، خلقت عند الأستاذ قلقا داخليا، وفي كل مرة نجلس معه لمدة أربع ساعات، في البداية يطلب فنجان قهوة سادة، وبعد ساعتين يطلب كوب عصير ليمون دون سكر. وكل ساعة يدخن سيجارة من النوع الخفيف. وفي منتصف الجلسة يذهب إلى دورة المياه، يفعل هذا بموجب منبه داخلي لا يتأخر لحظة ولا يتقدم ثانية، وقد كان المرحوم محمد عفيفي دقيقا عندما قال عنه منذ سنوات: الرجل الساعة.

كان الأستاذ قد تناول القهوة قبل الحضور، وهنا طلب كوب الليمون. ولكن يده لم تمتد إليه على مدى الساعات، والذي حافظ عليه كان السجائر. مصطفي الفقي قال لي إنه على الرغم من معاناته من بعض المشاكل في السمع والبصر. فإن حضوره الشخصي طاغ. وقريحته متوهجة وبديهيته متألقة. المستشار عبدالمجيد محمود. قال لي إن نجيب هو المتوسط الحسابي لشخصية المصري، فيه الذكاء والفهلوة وخفة الظل.

سأله السعدني: عم نجيب هل ما زلت تذكر أين ومتى تقابلنا آخر مرة؟ سرح مع ذكرياته. ورفع يده على رأسه في محاولة لاصطياد الذكريات الهاربة. قال نجيب: أعتقد كان ذلك في بيت محمد عبدالوهاب. وكان معنا آخرون. يتناوبان إكمال الحكاية.

قال عبدالوهاب إنه يريد أن يسهر في بيته مع مثقف شيوعي. وقع الاختيار على الدكتور لويس عوض. وكان لا بد من الآخرين. علاوة على راوي الحكاية كان هناك فتحي غانم وحسن فؤاد وأحمد بهاء الدين، وطبعا ذهب لويس وقضى الأمسية دون أن يعرف الهدف منها. يبدو أن صالون عبدالوهاب قد رأى الكثير. ولكن من يؤرخ لما جرى فيه. يكمل نجيب أنه التقى بالسعدني مرة في اجتماع لوزارة الثقافة. ولكن السعدني يقول إنه يتذكر لقاء حضره أنور المعداوي. وإن كانت الذاكرة لا تسعفه فيتذكر مناسبة اللقاء أو مكانه، هل كان قهوة عبدالله في ميدان الجيزة التي لم يذهب إليها نجيب محفوظ أبدا. أم في مكان آخر؟.

قال السعدني بصوت عال: يا عم نجيب ألا تعود أصولك إلى الريف المصري؟ رد عليه نجيب أن والده من حي الجمالية في القاهرة ولكن جده من رشيد بالبحيرة. وعائلة جده هي عائلة الباشا موجودة في رشيد.

قال مصطفى الفقي إن البلد التي ينتمي إليها في البحيرة وهي المحمودية قريبة من رشيد. وبذلك فإن محافظة البحيرة أنجبت لمصر توفيق الحكيم الذي خرج من قرية الأبعادية ونجيب محفوظ الذي يعود أصله إلى رشيد. هذا علاوة على الإعلاميين الكثيرين الذين خرجوا من هذه المحافظة.

سأله السعدني من هم آخر الأدباء الذين قرأ لهم من كتابنا؟ شرح وحكى حاله مع القراءة الآن. قال نجيب إنه لا يقرأ ولكن هناك من يقرأ له. محمد صبري السيد. يقرأ له العناوين المهمة في الصحف حتى يظل متابعا لما يجري في مصر والوطن العربي والعالم من حولنا وفي المساء يقرأ له أدباء شباب بعض النصوص الأدبية التي يمكن قراءتها بهذه الطريقة.

أكمل نجيب: جيل الستينيات في مصر قرأته قبل مشاكل البصر. لقد قرأت لهذين الفارسين (يشير لجمال ولي) وأعرفهما جيدا. ومن الجيل الذي جاء بعدهما أو قل الأجيال. قرأت لمحمد المخزنجي ويسأل: هل يعد من الستينيات؟! وقرأت ليوسف أبورية وسعيد الكفراوي والمنسي قنديل.

يتحدث السعدني عن آخر قراءته. يقول أنه قرأ مؤخرا رواية أكملها حتى نهايتها. وهذا لا يحدث معه كثيرا. هي الرواية قبل الأخيرة من روايات الهلال: «خافية قمر» لمحمد ناجي. إن هذا الشاب حاول الاستفادة من التجربة المحفوظية في كتابة الرواية. ووفق كثيرا في البداية. ولكن القدرة على الاستمرار لم تكن بنفس قوة البداية.

سأله السعدني: هل زارك حنا مينه عندما كان في مصر؟ قال نجيب أنه زاره في مثل هذه الأيام من العام الماضي. تساءل السعدني عن الكاتب الجزائري الطاهر وطار. وأكد نجيب أنه لحق به قبل ضعف البصر. قرأ له رواية عن بيت للبغاء يعتقد أن عنوانها: عرس بغل. يحكي السعدني ذكرياته مع الطاهر.

قال أنا الذي نشرت له قصته الأولى. جاء بها ألفريد فرج من الجزائر كان عنوانها: «الشهداء يعودون هذا الأسبوع» نشرتها في مجلة 23 يوليو. أكملت أنا: أن الطاهر انتهى مؤخرا من رواية جديدة عنوانها: «الشمعة والدهاليز». ويبدو كما فهمت من حديث معه. عندما تقابلنا في لندن مؤخرا أنه يساوي بين خطر الإرهاب وخطر الفرنسة. قال مصطفي الفقي إن العروبة قومية في شمال أفريقيا وفي الجزائر على وجه الخصوص.

تحدث السعدني عن إميل حبيبي. فقال نجيب إنه صاحب المتشائل. إنه يستفيد من التراث وفي كتاباته روح سخرية مرة. أما غسان كنفاني. قال نجيب إن توفيق صالح أخرج له روايته: «رجال في الشمس» في فيلم: «المخدوعون» وقد لا يعلم كثيرون أننا حاولنا إنتاج هذه الرواية في فيلم في مؤسسة السينما عندما كنت مسؤولا عنها.
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي