No Script

نقد

الأسلوب المتأخر في مجموعة ... «صباح يشرب البرتقال» لنجمة إدريس (1 من 2)

تصغير
تكبير
تقدم الشاعرة بشفافية عالية صورة الإنسان المعاصر من دون مبالغة أو تزييف
يسطع اسم الدكتورة نجمة إدريس في سماء الإبداع في الكويت كواحدة من أهم الأصوات الشعرية والنقدية الرصينة واللافتة في المشهد الإبداعي الكويتي. ولقد لفتت الأضواء إليها وهي لا تزال في سن مبكرة كما يصفها الدكتور محمد حسن عبدالله في كتابه القيم «الشعر والشعراء في الكويت»: «إن نجمة إدريس التي تعيش في لندن منذ خمس سنوات أو تزيد بغية الحصول على الدكتوراه في الأدب المقارن، من خلال عزلتها عن مهدها ومجتمعها تبدع تجارب وصورا نادرة، تنبع من هذا القلق الذي يتحول مع العزلة إلى خوف وحزن، ويأخذ صورا شتى تتشكل فيما يناسب تجربة الحياة الواقعية التي تعيشها في لندن». (محمد حسن عبدالله، 1987م، ص41).

ويختم حديثه عنها بامتداح قصيدة «الدبابير وشباك البحر»: «هذه القصيدة النادرة، لها أشباه في شعر نجمة إدريس. وهي تختلف في شعرها عن رفيقات عمرها غنيمة وجنة وخزنة». (السابق، ص:44).

هذه الإشادة الرائعة من علم من أعلام النقد الأدبي تضيء لنا بشكل لافت قوة البداية الشعرية لشاعرتنا في منجزها الإبداعي المحمل برؤى نقدية رصينة عميقة وأصيلة. تميز انتاجها حقيقة بحيويته وتمثيله لقضايا تحولات المجتمعات العربية من جانب، والقضايا التي تشغل المواطن العربي من جانب آخر، وفي ملمح ثالث مهم هو خروج نصها الشعري بروح الشعر الجديدة المتطورة وبوعي كبير بالحساسية الشعرية المتغيرة من فترة زمنية لفترة أخرى وليس الثبات على لغة شعرية

واحدة طوال منجزها الإبداعي. وهي تكتب قصيدة الشعر الحر وقصيدة النثر عن وعي وإدراك وتبني لطروحات الحداثة وما بعد الحداثة ليس بهدف المجاراة لتغيرات العصر وحسب بل باعتبارها تعبيرا صادقا عن روح هذا العصر

وتجلي من تجلياته الإبداعية. ففي سيرتها الفكرية الموثقة لمراحل تشكل وعيها المبكر «تتكسر لغتي... أنمو» تحدثت عن تبينها لقصيدة النثر بقولها: «في هذه المنطقة الواقعة ما وراء التعبير، يصعب ترويض الإيقاعات المنفلتة، أو تعليبها في مدى صوتي مقنن لا يتجاوز امتداد تفعيلة، أو امتداد زنزانة لا فرق!». (نجمة إدريس، 2004م، ص:38) ونتج عن ذلك نص شعري يعبر عن تبنيها لشكل قصيدتها الحداثي بعنوان «ارتكاب»: يرقص الخليل مع «سوزان برنار». (السابق، ص: 115) وتؤكد فيه ضرورة انبثاق الشكل الأدبي من التغيرات الثقافية والسياسية والاجتماعية الكبرى للعالم.

إذا كان مفهوم الذات والهوية الفريدة للإنسان قد تغيرت كما يقول جاك لاكان في دراسته للاوعي بوصفه يشكل نواة وجودنا، بدلا من الوعي، وأن: «فكرة الشخصية التي بقيت بالمقابل تستند على فكرة الشخصية الفريدة المستقلة قد أصبحت لا يمكن الدفاع عنها» (Parry,1995). أصبح العالم متحولا ومتبدلا بشكل كبير جدا بأحداث كبرى قد شظت وقسمت المجتمعات الإنسانية وتداعت الشعارات الكبرى والخطابات الموحدة، فكيف نعبر عن هذا كله بشكل جامد وتقاليد شعرية تمتد إلى ألف سنة، لذلك كان خيارها الشعري أن يكون الإيقاع هو الجواد أما التعبير على حد قولها «فهو الفارس الذي يقود جواده، ويحدد انطلاقاته ومساراته». (إدريس، 2004، ص:39).

في هذه القراءة، سيتم دراسة تحولات مضامين قصائد مجموعة «صباح يشرب البرتقال» من خلال مفهوم «الأسلوب المتأخر» عند إدوارد سعيد، وتحولات الهوية الإنسانية الجديدة.

«صباح يشرب البرتقال» والتحولات الإنسانية والشعرية:

في مجموعتها الشعرية الصادرة حديثا عن دار ضفاف «صباح يشرب البرتقال»، نجد المبدعة هنا تقف مع تحولات مواقفها ورؤاها في الحياة بنظرة متعايشة ومتسامحة مع ما آلت إليها مجريات الحياة الشخصية والاجتماعية، وتقدم بشفافية عالية صورة الإنسان/‏ة المعاصر/‏ة من دون مبالغة أو تزييف إذ أصبحت البطولات الزائفة محض تصوير لغوي، وأصبح الإنسان العربي اليوم يعيش تحولات مهمة في إيقاع حياته، تحولات طبيعة انشغالاته وهمومه اليومية، وطريقة أسلوب حياته. وهذه الصور هي مدار الاشتغالات الجمالية والمعرفية لمجموعة «صباح يشرب البرتقال».

تتوزع المجموعة الشعرية على ستة أقسام يجمع الأجزاء الخمسة الأولى رابط زمني مترابط عضويا وهي ترصد يومياتها من دون تواريخ محددة، بل تأخذ من يومياتها مادة شعرية غنية مقسمة على الأجزاء التالية: (مبتدأ، صباحات، مساءات، ما يعن بينهما وخطوة في الغبش). وجميع هذه الأجزاء تترابط زمنيا وتشكل أوقات اليوم الواحد من صباح ومساء وما بينهما من أوقات متعددة كظهيرة وعصر ومغرب، ومن ثم المساء وصولا إلى أول الفجر (الغبش)، الذي ترد فيه كلمات ذات دلالة مهمة مثل الموت والنهاية وما قبل النهاية، ويمتلئ بالحكم والرؤى الإنسانية الناضجة، وتحضر فيها رؤى إعادة الخلق من جديد في أكثر من نص: (كمروق أرنب بري يسابق عشبة تنبت على مشارف الآخرة، ولكنني أكاد أجزم أن له (يدا) تخرج من جيبها بغتة لتلم أشلائي، وتتدلى أنت كقطرة ماء أخيرة تغسل وجه العالم وتعيد تظهير صورته الفوتغرافية السالبة!) وكأنها تعيد تشكيل عالمها من جديد في نهاية يومياتها المشغولة بالتفكرات والتأملات فيما آلت إليه حياتها وعلاقاتها بمكونات الوجود.

والقسم الأخير معنون بـ «أن تكون هناك» وهو قسم منفصل عن بنية العناوين السابقة في إحالة مكانية تشتغل على تفاصيل المكان بدلا من الزمان، وكأنه يعبر عن رغبة كامنة في أن تكون في المكان وتفاصيل حياتها العملية والثقافية في الجامعة بعد أن انسحبت عن الأضواء وعاشت في عزلتها الخاصة في صباحاتها ومساءاتها وما يعن بينهما.

الأسلوب المتأخر

إن المطلع على أهم أعمال نجمة إدريس يلاحظ تحولا كبيرا عن الأسلوب الفكري والفني المقدم في مجموعاتها السابقة مثل «الإنسان الصغير»، «طقوس الاغتسال والولادة»، و «مجرة الماء»، ومجموعتها الأخيرة «صباح يشرب البرتقال» مما يذكرنا بظاهرة «الأسلوب المتأخر» عند الناقد الفلسطيني الأميركي إدوارد سعيد في آخر كتبه التي صدرت بعد وفاته في عام 2005م. يستثمر سعيد في كتابه، الذي كان بالأصل مجموعة من المحاضرات التي ألقاها في جامعة كولومبيا، فكرة أدورنو عن «الأسلوب المتأخر». وفكرة الأسلوب المتأخر هو أن تلاحظ «الأسلوب المتأخر» للكاتب، وهو الذي يكون في مرحلة عمرية متأخرة للكاتب وليست أخيرة، فالأخيرة هي ما قبل الموت مباشرة، وهذا أمر يصعب حصره في إنتاج المبدعين.

يلاحظ أدورنو ومعه سعيد أن هناك كتابا عبرت أساليبهم الكتابية (الفكرية والفنية) المتأخرة عن قوة وتميز بينما كانت الأخرى أقل من قدرتهم الإبداعية المعهودة في منجهزهم السابق، وهذه الإشكالية مرتبطة بشكل كبير بتقدم العمر وما تفترضه من مشاكل صحية، إضافة إلى خلاصات تجارب الحياة من حكمة وهدوء وتبصر في ماضي التجربة الإنسانية (وهذا ما أراه متمثلا في المجموعة الحالية لنجمة إدريس). يتساءل ادوارد سعيد في بداية الكتاب: «هل أن المرء يزداد حكمة مع العمر؟ وهل أن ثمة مؤهلات فريدة في الرؤية والشكل يكتسبها الفنانون بسبب العمر في الفترة المتأخرة من سير حياتهم؟ (سعيد، 2015، ص: 39).

ومن اللافت أن سعيد قد ربط فكرة «الأسلوب المتأخر» بنظرية ابن خلدون في دورة الحضارة من صعود وسقوط. ويحاول من خلال دراساته المطبقة على حياة مجموعة متنوعة من الكتاب والفنانيين والموسيقيين أن يبحث في أسلوب كل منهم مثبتا تنافر بعض النصوص مع الزمان والمكان الذي تنتسب إليه، ولطالما بحث سعيد بشكل مضنٍ عن ضرورة انتماء النصوص لزمانها ومكانها وارتباطها الحقيقي بالعصر الذي انتجت فيه.

وقد لاحظنا نحن كقراء تأخر أساليب بعض الكتاب العرب، ودوما كنا نعبر عن استياء خفيف من بعض الكتابات المتأخرة للكتاب. كان محمود درويش نفسه من الأدباء الذين قوبلت بعض كتاباتهم المتأخرة بهذه النظرة العابرة، التي لم تجد حقيقة في تلك الفترة نظرة نقدية تحليلية عميقة تنبثق من إدراك معرفي، إذ إنها ترتبط بظروف درويش الصحية المتأخرة والظروف السياسية والاجتماعية والثقافية التي غيرت مسارات الشعر العربي الحديث إلى دوائر أخرى ونقلته من شاعر قومي إلى شاعر كوني.

يبدأ الأسلوب المتأخر عند الشاعرة من العنوان ويظهر كذلك في طبيعة الموضوعات المطروقة، فمن الواضح من عنوان المجموعة أن هناك انحرافا وتحولا كبيرا في طبيعة التصورات والرؤى للحياة، فالعنوان يقوم بكسر أفق توقعاتنا لمجموعة شعرية لكاتبة تميزت بلغتها التصويرية الشعرية العالية. يتكون العنوان من جملة نحوية عادية في تركيبها جملة اسمية من مبتدأ وخبر، ولكن ما هو غير مألوف هو تجسيد الصباح ككائن يشرب ويأكل مثل الكآبة التي تستيقظ قبلنا وتسبقنا في قراءة الجريدة.

يصبح ظرف الزمان الصباح هو المهيمن في النصوص وفي الشخصية الكاتبة للقصائد، وليس هذا وحسب بل هو صباح يشرب البرتقال، بدلا من القهوة، ونحن نعتاد على شرب القهوة والشاي في ثقافتنا العربية. ولكن كاتبتنا تتوجه في عنوانها نحو الغرب وطقوس الصباح عندهم حيث يبدأ بعصير البرتقال. وإذا بالروح المعبر عنها في النص هي روح غربية أيضا، من نظرة أولى في النص تتوافق دلاليا مع مضامين عدد كبير من القصائد، إذ تعكس الشخصية سلوك الحياة المعاصرة المنتشر بتزايد في المجتمعات العربية.

وللمفارقة هو مجرد أسلوب حياة مادية عند الشرق أكثر من أنه أسلوب فكري ومعرفي يتغلغل إلى جوانب متعددة في الحياة الشرقية وهو مالا ينطبق على المبدعة نجمة إدريس لأنها عبرت في انتاجها عن سلوك فكري غربي وأسلوب حياة مختلف.

* ناقدة وأكاديمية كويتية
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي