No Script

رسائل المشاهير... في الحب والغرام

أمل دنقل لـ عبلة الرويني: أردت أن يكون عقلي هو السيد الوحيد لا الحب / 14

تصغير
تكبير
 | القاهرة - من خالد زكي |
الحب هو ذلك الشعور الخفي الذي يتجول في كل مكان، ويطوف الدنيا بحثا عن فرصته المنتظرة ليداعب الإحساس ويغازله، ويسحر العيون، ويتسلل بهدوء، ويستقر في غفلة من العقل، داخل تجاويف القلب، ليمتلك الروح والوجدان، ويسيطر على كيان الإنسان، ويزلزله زلزالا ويهزه بقوة.
الحب كالموت، لا يفرق بين صغير وكبير، وغني وفقير، الحب جمرة من نار، تنشر شظاياها في قلوب المحبين، فتكويهم بلوعة الشوق وألم الفراق... الحب هو تلاقي الأنفاس وتشابك النظرات. وتحليقها في سماء تخلو من الأحقاد والأضغان.
وقديما قال الشاعر:
إذا أنت لم تعشق ولم تدر ما الهوى... فكن حجرا من يابس الصخر جلمدا
قاصدا بذلك أن القلب الذي لا ينبض بالحب يشبه الصخر الذي لا حياة فيه ولا روح، والقلب الذي لا تحرقه لوعة الحب هو مجرد حجر أملس لا يعرف لغة المشاعر، والتاريخ يؤكد دائما وأيد أن الحب لم يفرق يوما بين شاب لاه وشيخ معمم، أو بين قائد عسكري يقود الجيوش وآخر يعيش في أبراج من الخيال والوهم.
والحب يخلق في القلوب رغما عن أصحابها... كما قال نزار قباني:
تلومني الدنيا إذا أحببته... كأنني أنا خلقت الحب واخترعته
وفي هذه الحلقات... نعرض جانبا من رسائل مشاهير السياسة والحرب والأدب والشعر لمن أحبوهم وتعلقوا بهم، وبادلوهم الغرام، لنرى كيف كان القائد الفرنسي نابليون بونابرت يكتب أجمل رسائل الحب إلى محبوباته، وكيف كان الرئيس جمال عبدالناصر يخاطب زوجته من ميدان القتال، وكيف امتلك قيادي إخواني متشدد قلبا كقلوب العاشقين الحيارى. وهذه الرسائل تكشف الوجه الآخر لهؤلاء المشاهير الذين لم يتمكنوا من إغلاق قلوبهم أمام أنواء الحب التي لا تبقي ولا تذر.

كان مقهى «ريش» الثقافي الشهير بوسط القاهرة. هو المكان الأول الذي جمع بين الشاعر المصري أمل دنقل 1940 - 1983، وزوجته الكاتبة الصحافية عبلة الرويني. ذهبت إليه في ذلك اليوم لتجري معه حوارا صحافيا لجريدة «أخبار اليوم»، التي كانت تعمل بها العام 1975.
ومنذ اللقاء الأول أصابت سهام الحب قلب كل منهما. كانت شهرة أمل في ذلك الوقت ذائعة، بينما كانت عبلة صحافية شابة في بداية الطريق، إلا أن الأقدار شاءت أن يشهد هذا اليوم مولد قصة حب غريبة ومختلفة في تفاصيلها عن جميع قصص الحب التقليدية.
وعلى الرغم من أن أمل دنقل - الذي عاصر أحلام العروبة والثورة المصرية - ما ساهم في تشكيل نفسيته وصدم جميع المصريين بنكسة 1967 - كان من الأسماء غير المرحب بها في صحيفة الأخبار الحكومية، نظرا لأفكاره اليسارية المعارضة لنظام الحكم في ذلك الوقت.
إلا أن عبلة نجحت في نشر حوارها معه، وكان الحوار الأول والأخير الذي نُشر لأمل في «الأخبار»... بعدها استمرت علاقة الصحافية الشابة بالشاعر الكبير، وتوالت بينهما اللقاءات داخل مقهى «ريش»، وصارا صديقين.
اللقاء الرابع
وكان أمل لا يميل كثيرا إلى مصاحبة النساء، الأمر الذي جعله في لقائه الرابع بعبلة يقول لها، ومن دون مقدمات كما تروي هي في كتابها «سيرة أمل دنقل» - «يجب أن تعلمي أنك لن تكوني أكثر - من صديقة» ما أثار استفزازها فردت عليه قائلة: «أولا أنا لست بصديقتك كما أنني لا أسمح لأحد بتحديد مشاعري متى تتزايد أو تتناقص، إنني وحدي صاحبة القرار في علاقاتي بأصدقائي»، وهو ما جعل أمل - كما تروي الرويني - يضطر إلى التراجع وإلى إظهار بعض مشاعره، حينما راح يفكر في صوت مسموع قائلا: إنني رجل بدأت رحلة معاناتي في سن العاشرة، وفي السابعة عشرة اغتربت عن كل ما يمنح الطمأنينة حتى الأبد، وأعتقد أن السهم الوحيد الذي يمكن أن يصيبني في مقتل سوف يجيء من امرأة، ولذلك اتسمت علاقاتي دائما بالرفض، كنت أستغرق في الحب لكنني في صميمي كنت هاربا من التمسك بها.
عاطفة جديدة
وفي هذه اللحظة باح دنقل ببعض مشاعره، وتحدث عن رغبات - عبلة البرجوازية - في الشعور بالقلق، وتحدث كذلك عن حياته التي لم تعرف أبدا الاستقرار، تقول عبلة: «تحدث عن أشياء كثيرة غير مترابطة في هذا اللقاء، بينما كنت أنا أشعر بفرحة غامرة، فرحة ميلاد عاطفة جديدة، فمن المؤكد أن أمل أحبني وأن غضبي لعبارته يعني أنني أحمل نحوه المشاعر نفسها».
وتصف عبلة لحظة وداعها لدنقل. بعد هذا اللقاء الساخن قائلة: «سألني وهو يمد يده مصافحا: هل أراك غدا؟ فأجبته: بالتأكيد لقد أحببتك وفي هذه اللحظة تقول عبلة مد أمل رقبته إلى أعلى حتى لا يمكنني رؤية وجهه الذي ارتسمت عليه شبه ابتسامة خجول، ومضى دون أن يعلق بكلمة واحدة».
وتكمل: «كان أمل مغرما بإهدائي كتب الشعر، أغلى ما يمكن إهداؤه. وأغلى ما يمكن أن يصلني، فقد أهداني طبعة أنيقة للغاية مجلدة بالحرير من الموشحات الأندلسية، مؤكدا لي أنه هكذا يجب نشر الشعر، مرة واحدة فقط وقبل الزواج أهداني خاتما ذهبيا رقيقا على صورة قلب وعندما سألته عن سبب الهدية ضحك قائلا: بلا أسباب فلربما إذا انتظرت الأسباب لا أملك تقديم هدية لك إنني لا ألتقي والضرورة أبدا.
أول نسخة من ديوانة «العهد الآتي» أهداها إلى عبلة، وكتب لها إهداء قائلا: إلى الآنسة عبلة الرويني. كان من الممكن أن تكون صديقتي لكن عنادها حطم هذا الاحتمال أرجو أن يكون هذا الكتاب عند حسن ظنها مع تقديري لشاعريتها.
علاقة فاصلة
وقد كان هذا الإهداء نقطة فاصلة في علاقة أمل بعبلة، إذ عرفت عبلة من هذا الإهداء أن أمل يحبها تقول هي عن ذلك: أدهشني الإهداء فأبدا لم يتحطم شيء، لكنه أراد أن يعلن أن عنادي وحده حولني من صديقة إلى حبيبة مشاكسة تقلقه دائما بردود أفعالها المفاجئة.
كثير من الحب
وتكمل قائلة: لعله أراد أيضا أن يمارس هوايته في صناعة القلق لي، فقد كتب يوما رسالة طويلة قال لي فيها: «لو لم أكن أحبك كثيرا لما تحملت حساسيتك لحظة واحدة، تقولين دائما عني ما أدهش كثيرا عند سماعه. أحيانا - أنا ماكر. وأحيانا أنا ذكي على الرغم من أنني لا أحتاج إلى المكر أو الذكاء في التعامل معك، لأن الحب وسادة في غرفة مقفلة أستريح فيها على سجيتي، إنني أحب الاطمئنان الذي يملأ روحي عندما أحس بأن الحوار بيننا ينبسط ويمتد ويتشعب كاللبلاب الأخضر على سقيفة من الهدوء أكثر شيء أخافه هو تربيتك، أو بالأحرى حياتك.
ففي العادة تبحث الفتيات اللواتي لهن مثل ظروفك عن الأمان في البيت والعمل عن قدرة من القلق والانشغال وأنا لا ألومك في هذا بل أصنعه لك متعمدا في كثير من الأحيان إنني أحتاج إلى كثير من الحب وكثير من الوفاء وكثير من التفاني إذا صح هذا التعبير، ولكنك لا تعطيني أي شيء لدرجة أنك إذا أحسست أني محتاج إلى كلمة حب رفضت أن تنطقيها وإذا طلبت منك طلبا صغيرا فأقرب شيء إلى لسانك هو كلمة الرفض. إن قلبك - قفر جدا - لا يستطيع أن يكون وسادة لمتعب. أو رشفة لظمآن.
إنني لا أبحث فيك عن الزهو الاجتماعي ولا عن المتعة السريعة العابرة، ولكني أريد علاقة أكون فيها، كما لو كنت جالسا مع نفسي في غرفة مغلقة. إننا ظللنا فترة طويلة نبحث عن شكل مريح للحب بيننا، ولم نجده في أغلب الأحيان، فما نكاد نلتقي إلا ونتشاجر، وكأن ما بيننا غضبا وعنادا ساطعا.
كنا أشبه بالمتنافرين دائما نتكسر في الطرقات الممدودة أبعادا مختلفة فتجمعنا الأشلاء في استمرار معاند. في لحظة نحشو العالم في جيوبنا ونلملم كل الأوراق الخضراء، وصوت العصافير والأقلام الملونة ثم بلحظة أخرى نمزق جميع الأوراق ونذبح صوت العصافير ونكسر جميع الأقلام الملونة والدفاتر اللاقانون كان هو القانون الوحيد الذي يحكم قلبينا، فعندما نقرر لا نفعل شيئا، وعندما تتساوى الأشياء نحطم كل شيء ونتعامل بمنطق المفاجأة هكذا كنا نحب بأسلوب كتابة القصائد تكتبنا الحروف من دون أن نحاول رشوتها أو التحايل لوجودها.
عاشق شرير
وتحكي عبلة: «كنت أغضب منه كثيرا ويفاجئني انفعالي، فأترك أمل في منتصف الطريق لكني سرعان ما أعود للبحث عنه في أماكنه بالمساء، حاملة معي كلمات بشكل الانفجار فأقول له: كلما قرأت أشعارك أحس أن مكانك الطبيعي بين الانقلابيين ولهذا فأنت شاعر جيد وعاشق شرير».
الغريب أن أمل دنقل الشاعر الكبير لم يكن مغرما بالنثر كثيرا، ولم يكن مغرما كذلك بكتابة الخطابات العاطفية، لكنه أمام عدم قدرته الدائمة على الإفصاح عن مشاعره بشكل صريح كتب إلى عبلة قائلا: صباح الخير. في المثلث الممتد من الشباك إلى زاوية سريري أراك متمددة في الذرات الذهبية والزرقاء والبنفسجية التي لا تستقر على حال تماما كنفسيتك.
ومع ذلك أبتسم لك وأقول صباح الخير أيتها المجنونة الصغيرة التي تريد أن تلف الدنيا على أصبعها، والتي تريد أن تمشي فوق الماء، ولا تبتل قدماها الفضيتان في المسافة بين الأمس واليوم - لقاؤنا الممتد - طريق ينشق في قلبي في كل مرة أضطر إلى أن أتركك أحس أن لقاءنا الأول هو لقاؤنا الأخير والعكس صحيح، لا أعرف تماما لماذا هذا الإحساس.
لكنني أرجح أنه نابع من إحساسي بتقلبك الدائم وبحثك المستمر عن الحزن. لا أريد أن أفكر كثيرا في خلافاتي معك، فهذا الصباح أجمل ما فيه أن يقع بين موعدين بين ابتسامتين من عينيك، صحيح أنهما سرعان ما تنطفئان، لكنني أسرقهما منك وأحتفظ بهما في قلبي وأتركك تغضبين وتغضبين حسنا لا يهم، فلقد عودت نفسي على أن أعاملك طبقا لإحساسي وليس طبقا لانفعالاتك، أحبك ولا أريد أن أفقدك أيتها الفتاة البرية التي تكسو وجهها بمسحة الهدوء المنزلي الأليف.
دليل الحب
وتتحدث عبلة عن مشاعر أمل قائلة: ظل أمل يبحث دائما عن تأكيد لحبي له - من دون أن يمنحني نفسه هذا التأكيد - كان شعوره الدائم بالوحدة وعدم الأمان يطالبني بالمزيد من المشاعر، وهو الواثق أن مشاعري ليست فقط أضعاف مشاعره وإنما انتماء كامل له، كنت أريد من مشاعره الكثير من الكلام والكثير من الانفعال والكثير من النار والكثير من الحرائق، وكان يمنحني مشاعر عميقة تأكيدها بالألفاظ، وكان هو يريد من مشاعري المزيد من الهدوء، المزيد من السكينة من أجل لحظة اطمئنان واحدة لم يعرفها طوال حياته.
وكنت أمنحه انفعالات مستمرة وتوترا عاطفيا لا يعطي استقرارا. كان قليل الإفصاح عن مشاعره وأحاسيسه، بينما كنت شديدة الإفصاح عنها والتعبير بجميع الأشكال على الرغم من محاولات المكابرة، أنا التي أطلب لقاءه، وأنا التي أبحث عنه، وأنا التي تعلن مشاعرها واضحة في كل لحظة.
وبالرغم من ذلك ظل لسنوات كثيرة يبحث عن تأكيد دائم ويقين راحة واطمئنان لا ينتهي، لقد ظل هذا الشعور الداخلي بانعدام ثقته في العالم يحرك مواقفه دائما أمام الأشياء والأشخاص، وقد كان يدرك جيدا طبيعة قلبه ولهذا لم يفتحه إلا لأشخاص يستحيل عليهم إيلامه، لقد كان يملك قلبا نبيلا أشد رهافة من احتمال أي محاولة لإيلامه، ولهذا لم يفتح قلبه إلا لقليلين للغاية.
غير مسموح
كتب لي يوما قائلا:
«إنني لا أعتقد أن الشاعر في قلبي تقاسم الكينونة مع القاتل في أعماقي لقد قتلت عبر سنوات العذاب كل أمل ينمو بداخلي، قتلت حتى الرغبات الصغيرة والضحك الطيب لأنني كنت أدرك دائما أنه غير مسموح لي بأن أعيش طفولتي كما أنه من غير المسموح به أن أعيش شبابي. كنت أريد أن يكون عقلي هو السيد الوحيد لا الحب ولا الجنس ولا الأماني الصغيرة، لقد ظللت لا أقبل كلمة رقيقة من امرأة لأنني أضطر عندئذ إلى الترفق معها وهذا يعني بلغة الإحساس التودد لها وهو الضعف الذي لا يغتفر وقد لا تعرفين أنني ظللت إلى عهد قريب أخجل من كوني شاعرا، لأن الشاعر يقترن في أذهان الناس بالرقة والنعومة وفجأة ها أنت تطلبين مني دفعة واحدة أن أصير رقيقا وهادئا وناعما يعرف كيف ينمق الكلمات».
زواج مختلف
وتشرح عبلة الصعوبات التي واجهت إتمام زفافها من أمل قائلة: كانت المسافة كبيرة بين عالمي وعالم أمل في صورتها الظاهرية، فقد كنت أنتمي إلى أسرة محافظة وثرية وإلى منزل هادئ، كما أن طفولتي كانت قادمة من أيدي الراهبات الفرنسيات. كنت أمتلك الكثير من الأشياء والكثير من التدليل للابنة الوحيدة بالأسرة، بينما كان أمل ينتمي للريح والاضطراب، فبالرغم من عزوة عائلته وقوتها وثرائها.
إلا أنه كان دائما لا ينتمي إلا إلى نفسه، عرف معنى الرجولة مبكرا حينما توفي والده، وهو لايزال في سن العاشرة، فكان رجل البيت الذي تولى شؤون أمه وأخواته. كان أمل ينتمي إلى الشوارع، والحواري والأزقة والطرقات. حتى انه ذكر يوما أن تاريخ الأرصفة هو تاريخه الشخصي. كل هذه الفوارق بين أمل وعبلة - على ما يبدو - أدت إلى وجود بعض العقبات في طريق إتمام زواجهما لكنهما تغلبا عليها وتم الزواج.
وتصف عبلة الحياة بينهما بعد الزواج فتقول: «كان أمل يستيقظ ظهرا وكنت أصحو قبل ذلك كثيرا حتى يمكنني الذهاب إلى جريدتي والعودة قبل استيقاظه كمن هي على موعد غرامي جديد، فقد كنت أشعر دائما بفرحة حضوره وأحرص على تواجدي معه».

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي