No Script

قراءة / «موستيك» وليد الرجيب ... أصوات المكان وتشظي السرد

u0648u0644u064au062f u0627u0644u0631u062cu064au0628 u064au0648u0642u0639 u0639u0644u0649 u0631u0648u0627u064au062au0647 u00abu0645u0648u0633u062au064au0643u00bb r
وليد الرجيب يوقع على روايته «موستيك»
تصغير
تكبير
| فهد توفيق الهندال |
بعد روايته الأولى «بدرية» الصادرة قبل 19عاما ، أصدر أخيرا الكاتب الكويتي وليد الرجيب روايته الثانية «موستيك»، بالرغم من أنه ذيّل تاريخ الانتهاء منها بـ 20 يونيو 2001، بمعنى أنها تأخرت عن النشر سبعة أعوام أخرى، كانت كفيلة بأن تشهد الساحة السردية لاسيما الروائية تحولات في الكتابة على المستوى الفكري والفني، إلا أن ذلك لا يقلل من قيمة العمل المذكور، على اعتبار أن للكتابة خصوصيتها في عرض تجربة إنسانية عبر معالجة الكاتب، ورؤيته الخاصة فيها، إضافة لظروف العمل الروائي.
ولكن... هل من الضروري أن يعيش الكاتب هذه التجربة الإنسانية أو يكون شاهدا على زمنها ومكانها، لكي يكون ملما بكل تفاصيل واقعها المعاش، بما يمكن إعادته واقعا إبداعيا؟
جاءت أحداث «موستيك» في فترة الستينات من عمر الكويت، وأظنها ليست بعيدة عن ذهنية الكاتب، الذي استرسل بعض ملامحها على لسان سارده الكاتب الصحافي بسرده الخاص:
«عندما كتبت هذا الموضوع الصحافي لك أكن أظن أنه سيتحول إلى رواية، إلا بعد أن اكتشفت أنني بدأت أضيف إليه الكثير مما كان يتفق معه خيالي، ومنطق ربط الأحداث و الشخصيات والعلاقات في ما بينها، لم أكن أنوي صياغة الموضوع صياغة روائية، لولا إحساس لا أدري كيف تسرب إلى داخلي وتملكني بقوة، مفاده أنني جزء من القصة ربما بسبب ارتباطي الرومانسي بعقد الستينات وكل ما يمثله».
ليستدعي الكاتب تلك الحقبة في وصف يؤطر به زمنه الخاص عبر السارد:
«فالستينات مرحلة سحرية بالنسبة لي، فهي مرحلة «الفيس بريسلي» و«البيتلز» و«البيتش بويز»، ومرحلة بعض الموظفين الكبار، الذين يحضرون معهم ظهرا الجريدة الرسمية «كويت اليوم» وثلاجة يدوية مليئة بالبيرة من شركة «كري مكانزي»، كانت مرحلة دوي المكيفات ، ومرحلة غناء عوض الدوخي بعد أخبار الواحدة ظهرا، مرحلة أمير الكويت عبدالله السالم الصباح عندما كان يمر بسيارته الكاديلاك على الدوار الذي يفصل بين منطقة العديلية والفيحاء والروضة والنزهة، ونحييه تحية عسكرية ونحن صغار... ايام شوربة العدس في المدارس».
ليستمر استحضار المكان أكثر في استغراق الكاتب في وصف فترة زمنية دون غيرها، ليؤطر به الحدث الرئيسي لاحقـا، حيث المكان برائحته ولونه واصواته ومذاقه المختلف، وحتى ملمسه المتناوب بين النعومة و الخشونة، كما جاء في السرد:
«الضحى... هذا الوقت المحايد، الرمادي... هذا الوقت الذي يثير الشجن، عندما يجلس خلاله كبار السن في الشمس الدافئة يجترون ذكرياتهم مع الشاي، ويطردون بتلويح أيديهم الذباب الملتصق بالسطح اللزج لفناجين الشاي، هذا الوقت الذي يشعر خلاله التلاميذ بالذنب لغيابهم عن المدرسة... لكل حين خلال اليوم أصواته الخاصة، ففي الصباح اصوات الاستيقاظ والافطار وحض الأبناء على الاسراع، وصوت جرس الصباح في المدارس، وعند الظهر أصوات العودة من المدارس والأعمال، صوت الأخبار الجريء والحماسي، صوت الاجتماع على الغداء، وفي العصر اصوات لعب الأطفال في الحواري واصوات حديث النساء المعاد والمكرر، واصوات الرجال العالي و الصاخب، وفي الليل صوت التحضير للنوم عندما يصبح الحديث أقرب للهمس... أما صوت الضحى فهو أكثر الأصوات كآبة رغم أن كل أعمال المنزل تنجز خلاله، لكن اصوات هذه الأعمال رتيبة كصوت الغسالات التي تدور نصف دورة إلى اليمين ونصف دورة إلى اليسار، «كقرقعة» أواني المطبخ، حتى أن ما يبث من المذياع يثير الشجن، وتصبح أصوات الطيور «الزرازير» عتبا حزينا.
هذه الاحداثيات المختارة للمكان، التي حرص الكاتب على رسم علاماتها في مواضع عدة عبر لقطات سريعة، متنقلة بين أمكنة عدة، أراد توظيفها لأمرين:
الأول، تحديد المواقع المرتبطة بالحدث الرئيسي، على اعتبار أنها المناظر الطبيعية لخلفية الحدث. والثاني، علاقتها برسم ملامح وعوالم شخصياته لاحقا وارتباطها بمكانها الخاص، بما قد يفسر مزاجها و طبعها في مجريات الرواية، وارتباطها في ما بينها. على أساس أن الإنسان يخضع العلاقات الإنسانية والنظم لإحداثيات المكان، كما يذكر يوري ليتمان في (بناء النص الفني).
ولعل الكاتب ركز وصفه على أصوات الضحى أكثر من غيرها من الأوقات، لكونه زمن الحدث الرئيسي في الرواية، والذي عبر عليه سارده الصحافي في معرض تمهيده في الصفحات الأولى للرواية، وهو حادث احتراق بئر نفط في أحد الحقول، المتهم فيه شخصية العمل المحورية مصطفى «موستيك». والحقيقة أن الكاتب كان موفقا في اختياره لهوية السارد، على أنه كاتب صحافي، وهو ما يشفع له لغته التقريرية التي طغت على عموم السرد، كذلك موقع سارده خارج الحدث، ليرصد رؤيته من أعلى، بما يمكنه من الاحاطة بكل مجريات الأحداث الثانوية الأخرى المرتبطة بـ «موستيك» وبقية شخصيات الرواية.
ومع براعة الكاتب في وصف بقية احداثيات مكان الرواية، إلا أنه انجرف كثيرا وراء الوصف على حساب السرد المرتبط بالحدث الرئيسي الذي تأخر كثيرا، ليكون المجال مفتوحا أكثر لمستويات سردية فرعية، ارتبطت جاداتها بشخصيات العمل الثانوية (دي علي) «زهرة»، الناظرة غنيمة، عليكو «علي»، خيجو «خديجة»، سيد ميرزا، بزة، فاتي «فاطمة» و(مانع نهار). حيث تحوّل فيها الكاتب عن مستوى السرد الأول الخاص بالحدث الرئيسي (اختراق البئر) والشخصية المحورية (موستيك)، مكتفيا بما جاء من شهادات الشخصيات عنه (موستيك)، عن ولادته العجيبة المرتبطة بأحداث غريبة في ليلة مولده:
«وقالت بزة أشياء أكثر عجبا من هذه قالت إنه في تلك الليلة سقط العديد من الشهب، وانها سمعت سيد ميرزا بأذنيها وهو يقول وعيناه على السماء:
- «خوش آمدي» (قدمت أهلا)
وكان الى جانبه أبو ياقوت الحواج، الذي علق هو الآخر:
- «وصل».
هذا الميلاد العجيب، يذكرنا بالسرد المتعلق بسيرة الأبطال الشعبيين، سواء في التراث العربي القديم، أو السرد الحديث كما في حرافيش نجيب محفوظ، وقد يبرر هذا الميلاد غير المرغوب به بهذه الصورة الحال التي تمتع بها مصطفى، ليعرف تاليا بـ «موستيك» شأنه في ذلك شأن الأبطال الشعبيين، وربما أضفى ذلك على «موستيك» صفات غير طبيعية وملامح خشنة قاسية ومرعبة للآخرين، لتسرد بعدها أساطيره ومغامراته في الحي ضد مرشد «طرزان»، ابراهيم «ابريه الوحش» في النقرة، أما مواجهاته لعصابة «بقالة العروبة» في الدسمة، وعصابة فهيد العضب ورضيو كوتشيك عند بقالة سعيد العماني «ظفار»، أو بطولاته المروية عنه في الشوارع والملاعب وغيرها.
كما أبعد الكاتب الأب عن ساحة السرد والحدث الرئيسي، وكأنه يحاكي تقاليد السرد المتعلق بسيرة الأبطال الشعبيين حيث حالات اليتم والعيش في كنف الآخرين، وهو يختلف هنا مع موستيك الذي عاصر والده لسنوات، قبل أن يرحل أو يهاجر مخلفا إياه ووالدته وأخيه الصغير عليكو «علي».
وأمام هذا التعدد في مستويات السرد المتعلق بمن هم حول موستيك، قد يأتي ضمن قاعدة السيرة الشعبية المتعارف عليها، إلا أن كثرة العودة للوراء من خلال السرد اللاحق للشخصيات الثانوية، أضعف كثيرا أهمية السرد الأول المتعلق بالحدث الرئيسي. إضافة إلى الاختلال الواضح في «سرعة النص»، وهو بعرف جيرار جينيت النسبة بين طول النص و زمن الحدث، فتكون هنا المعادلة بين الاثنين: طول النص... زمن الحدث، أي أن زمن الحكي الخاص بمستويات السرد الثانوية أكبر من زمن الحكي الخاص بالحدث الرئيسي، دون أن يدخل في المعادلة الحكي الخاص بموستيك الذي اساسا جاء حضوره ماضويا وليس آنيا.
إلا أنه تبقى ملاحظة يمكن أن تشفع للعمل، وهو اعتماد الكاتب خطة معينة في توزيع ساعات الزمن الثلاث على امتدادها المتوامج بين الماضي العائد للخلف لعقود، والحاضر العابر لدقائق، ربما هدف منها تعريف المتلقي على مرجعية شخصية موستيك، إلا أننا هنا نتساءل عن دور السارد الذي يعتبر مرجعية نظام الأحداث في السرد، لكون السارد اكتفى بظهوره بضمير المتكلم أول السرد ونهايته، ليبقي السرد في عموم العمل على حبل الضمير الغائب.
لنصبح أمام صرامة نقدية في تصنيف حالة السرد في رواية «موستيك»، وهو ما يمكن أن نطلق عليه «النص المتشظي»، أي المفتت.
إذا ما لاحظنا الآتي:
1 - تعدد الساردين.
2 - اعتماد السارد الأصلي (الصحافي) على الذاكرة في استرسال أحداثها الآنية والماضوية.
3 - تعدد مستويات السرد.
4 - ظهور السارد الأصلي في أول العمل ونهايته، واختفائه طوال أحداثها، وإن كان غير مشارك فيها أو حاضرا لها.
مع ملاحظة ارتباك سردي حول الحالة الراهنة لموستيك و عليكو و دي علي ، حيث تكرر ما سمعه عنهم. ليأتي الفصل الأخير، حيث عودة السارد الأصلي للحضور والحديث بضمير المتكلم منقذة لنهاية القص، فيما سرده من روايات عن اختفاء موستيك وموت مانع نهار الغامض دون تمهيد منطقي.
كذلك، ثمة ملاحظة على استعانة الكاتب باللهجة العامية، سواء الكويتية أو الفارسية اللتين وظفهما الكاتب في الحوارات، إلا أننا نتساءل عن تكرار ترجمة الفارسية مرتين في المتن والهامش، وهو ما يمكن أن يشوش المتلقي أكثر اثناء القراءة.
عموما، مع هذه الملاحظات، إلا أنه تبقى نقطة مهمة في رواية «موستيك»، أنها جاءت بلغة مفعمة برائحة المكان في زمن معين من تاريخ الكويت، حيث حرص الكاتب على تخزين ذاكرة السرد بكل ما تعلق بتلك الحقبة «الستينات» ، وهو ما يحسب له في عملية الوصف المذهلة لأصوات المكان، وإن جاءت في مجملها على حساب السرد.
* كاتب و ناقد كويتي
Kwt1972@gmail.com
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي