من فرط إحساسي بالكآبة من الوضع القائم والقادم وجهت لنفسي سؤالاً لطالما كنت أرفضه ككاتب رأي وهو: لماذا نكتب؟ ولمن نوجه كتاباتنا كأصحاب رأي؟ وأحسست أن قلمي وعقلي والمبادئ تتمرد على المنطق الذي كنت دوماً أؤمن به، والذي يستند على أن الكاتب وصاحب الرأي ملزم بالكتابة لكي يرضي ضميره الفكري، والذي يحتم عليه ألا يسكت طالما أن لديه ما يقوله لمصلحة بلده أو إنسانيته، ولجأت إلى الصحراء في محاولة مني للملمة قصاصات نفسي واستعادة السكينة التي تمكنني من الخروج من حال العصيان الذاتي. أين البلد، والجماعة، أو البيئة التي عاش بها أحلى أيام طفولته والتي تمثل ذاته؟ فالمكان الذي ترعرع فيه يمثل بالنسبة إليه غاية الكون ومداه، رغم أنه لا يمثل فعلياً أكثر من مجرد نقطة صغيرة على خريطة بلده، لأن المكان هو عائلته وجيرانه وأصدقاؤه والكيان الاجتماعي الذي ينتمي إليه وذووه وهو جزء من هذا الوطن، وهو الماضي والحاضر والمستقبل وخزان فكره وشخصيته، وله يحمل حبه كله وانتماءه الذي لا يتزحزح.
لقد وجدت أن نزهتي إلى «البر» قد زادت صدري ضيقاً، فهذه ليست الصحراء التي نعرفها، والتي أصبحت قاحلة جرداء تئن من أوجاعها بعدما كانت آمنة مسالمة وفيها الخير الوفير، فهذه الأرض، والتي كنت أعتبرها مخزن التقاليد والأصالة والكرم والشجاعة والتضحيات والإيثار، كما كانت السياج الآمن لهم ومثالاً صادقاً لنظام التكافل الاجتماعي، إذ كان أهل الصحراء «البدو الرحل» ملتزمين بمكارم الأخلاق والولاء المطلق، وكانوا يشتركون في الحزن والفرح، فإذا توفي أحد أبنائهم أصبح عاراً على أهله أن يقوموا بذبح الخراف طوال فترة العزاء. أما في الفرح فالكل يساهم، حسب طاقته، في تكاليف الزواج، وكان أهل الزوج يحرصون على اختيار الزوجات من العائلات ذات الأصل والسمعة الحسنة، كما كان احترام الصغار لكبار السن واجباً مقدساً، وكان الرجال شجعاناً وأصحاب الكرم والشهامة يحظون بتقدير كبير، بل ويعدون من المقتنيات والصيت الذي يُتفاخر به، وعليه فقد كان هناك انتماء والتزام بالموروثات لا سيما الحميدة.
أما الآن بعد التطورات الحديثة المتلاحقة فقد تبدلت، وأصبحت نمطاً عشوائياً لا يستند إلى أسس الماضي الإنسانية والأخلاقية التي كانت طابعها المميز، إذ لم تظهر عليها المعالم الحقة إلا في أنماط غير متناسقة، وسلوكيات مستهجنة وغريبة، وأفكار بغيضة، وعقليات متخلفة وقدوة سيئة، وعادات دخيلة ضارة، وتحولت أخلاق هذه الجماعات والفئات لتغدو صورة ممسوخة من عشوائية السلوك والأخلاق وعدم الانتماء والنفاق والتطبيل والتبجيل، وتفشى في أروقتها عرف خاطئ أصبح ظاهرة صحية متعارفاً عليها. وما أزعجني حقاً تعاظم طغيان الماديات على السلوك والعلاقات الاجتماعية الراسخة، والتي أدت إلى التباعد الاجتماعي والحقد الطبقي بين النشء الجديد من أبناء البلد الواحد، ليحل محل العادات والتقاليد الحسنة والمتفق عليها والترابط الأصيل. ففي علاقاتنا السابقة كان التفاوت في الدرجات قائماً إلا أن انعكاسه على العلاقات الإنسانية لم يكن حاداً، فالكل يجلس في الديوانية من دون تمييز بتآلف ومودة ليتبادلوا الحديث والرأي، وكان قاموسهم التواد والتواصل والاحترام والكرم والشجاعة والخصال الحميدة الأخرى، ولم يكن هناك تأثير لما يُسمى بالإعلام. أما المذياع الذي يعمل بالبطاريات، حينها، فكان مخصصاً لسماع القرآن الكريم والأخبار، وكان الشخص الكفء هو الذي يفرض نفسه على الآخرين، وكان الشخص المتدين له مكانة كبيرة واحترام منقطع النظير لما يتمتع به من ثقافة دينية وسلوكيات واضحة، والغالبية كان ديدنهم الزهد في الدنيا والاعتدال بالطرح! أما الآن فهناك الموبايل والتلفزيون والمحطات الفضائية، وهي تقتحم عليك حياتك من دون اختيار أو تمييز.
رحم الله عصر الجيل السابق لما فيه من فقر وعوز وحاجة وبساطة في التفكير والمنهج وبالسلوك، ورحم الله عصر القدوة، والتي كانت نبراساً لنا في شبابنا، فالمراهق تجده رجلاً بمعنى الكلمة لما يتمتع به من منطق ولباقة في الحديث وتصرفات سليمة لا تشوبها شائبة. واتساقاً مع هذا المناخ فقد كان الكبار لهم وضعهم الاجتماعي المختلف، ثم جاء أيضاً الجيل الثاني، وكان مكملاً للجيل الأول نوعاً ما، وأصبحت غالبية الموروثات عالقة في أذهاننا لا تتزحزح كاحترام الكبار والمدرس، الذي كان صاحب هيبة ووقار، والموظف كان مسؤولاً ونزيهاً، وهذا كله أصبح في منظور الجيل الجديد تخلفاً وتأخراً.
إن التحضر كانت أثاره مدمرة وسلبية أحياناً، إذ وجدت الشباب غير آمنين تطغى عليهم الماديات، والبعد عن مكارم الأخلاق والإيثار، والتذمر، والكسل، وعدم احترام الوقت، وعادات سيئة يتعاطون معها كل يوم. وأشاهد أن المدينة العصرية أصابها الكساد ونقص السيولة، وانخفاض النفط وتأثير الأزمة الاقتصادية على المؤسسات المالية والبورصة وارتفاع الأسعار، وضياع التخطيط، وعدم استطاعة السلطتين التشريعية والتنفيذية انتشال البلد من مستنقعات التدهور الحاصل في الأصعدة كافة، بسبب الخلل في الهيكل الاقتصادي وبطء دوران عجلة رأس المال، والعجز عن مواكبة متطلبات الواقع الاقتصادي الدولي، وانهيار بعض الأسر بسبب القروض والديون التي أثقلت كاهلهم، وقيام بعض وسائل الإعلام الموجهة بالتشهير بالرموز السياسيين وافتعال القلاقل والمشكلات وإثارة النعرات الطائفية، وخلق مشاكل غير حقيقية وغير موجودة وطرحها بشكل يثير الشك والاستغراب، وسوف تجلب لنا دماراً للمجتمع، وهذا له خطورة وحساسية على الأمن الاجتماعي... فألهمنا يا كريم الوسيلة والمعرفة للخروج من أزماتنا المتلاحقة.
فيصل فالح السبيعي
محامٍ ومستشار جمعية الصحافيين القانوني