جاسم بودي / الرأي اليوم / بين قمتين

تصغير
تكبير

لا يمكنك وأنت تتابع افتتاح القمة الخليجية في الدوحة إلا العودة بالذاكرة إلى سنوات خمس خلت، حين عقدت القمة أيضاً في الدوحة إنما في ظروف اخرى ومعطيات مختلفة.

يومها، غطت عوامل الاختلاف بين دول الخليج على عوامل الاتفاق. تناقضت الطروحات السياسية وتعددت المقاربات للزلزال الذي سيضرب المنطقة لاحقا... زلزال الحرب على العراق. ذهب القادة، أو من يمثلهم، إلى قطر بجدول أعمال معلن يتضمن رسالة التضامن والتماسك لـ «الخارج» خصوصاً في مواجهة التحديات الاقليمية، وبآخر غير معلن يحاول البحث في جذور التباينات لحلها ويتضمن رسالة النوايا الحسنة لـ «الداخل» من أجل صيانة مجلس التعاون ككيان للعمل الخليجي المشترك وكاطار يترجم تطلعات الخليجيين في مستقبل أفضل.

ويومها، لم يكتمل نصاب القادة في القمة لكن الذي اكتمل هو تصميم القيادة القطرية على التوفيق بين وجهات النظر المختلفة والاعتراف بالخصوصيات والتباينات من جهة، وبين استمرار العمل المشترك وفق القواعد التي تخدم مصالح المنطقة ومواطنيها. هذا التصميم أفرز دوراً ديناميكياً مهماً لقطر في المنطقة والعالم، وهذا الدور تمكن في خمس سنوات من تأسيس قاعدة جديدة للعمل السياسي والديبلوماسي والنهضوي والتنموي تسمح بالخلاف والاختلاف إنما تحت سقف واحد وشعار واحد وعنوان واحد... «البيت الخليجي».

أمور كثيرة تغيرت بين قمتين، ليس لأن الإرادة التوافقية لقادة الخليج أنتجت حضوراً كاملاً وأساسياً وفاعلاً في الدوحة فحسب، بل لأن النصاب توسع ليشمل حضور إيران الطرف الاقليمي القوي والأكثر إثارة للجدل والحجر الأساس في الأخطار الدولية المحيطة بالمنطقة في هذه الأوقات.

قمة الدوحة بهذا المعنى قد تكون أكثر من قمة، فهي مؤتمر تأسيسي لمنظومة حوار وتعاون وتفاهم وحل الأزمات بالقدرات الذاتية وتحت مظلة أهل المنطقة، وهي غير ذلك تماماً إذا شاءت الإرادة الدولية، والأميركية تحديداً، عرقلة هذا المسار... تساعدها أخطاء إيرانية نتمنى ألا تحصل. وكم كانت بليغة دعوة أمير قطر جميع الأطراف إلى «مراجعة أنفسهم قبل فوات الأوان» لأن المطالب المتنازعة «لا تخدم أهدافها بالاندفاع إلى التخويف المتبادل وحملات الكراهية التي تثير الحفائظ وتعمق الشكوك أو بالإقدام على مخاطر غير محسوبة تؤدي إلى عواقب غير مطلوبة».

أمور كثيرة تغيرت بين قمتين... إلا قطر التي قيل قبل سنوات خمس أنها تغرد خارج السرب فإذا بالوقائع تثبت أنها في قلبه ومساره. وفي الاطار نفسه يمكن القول ان اموراً كثيرة أيضاً تغيرت إلا كلمة أمير قطر الشيخ حمد بن خليفة التي صارت رؤية ولم تعد خطاباً افتتاحياً لقمة أو مؤتمر أو لقاء. فكل خطوة لا تخدم تطلعات الخليجيين ناقصة، وكل تحرك لا ينعكس إيجاباً في معدلات التنمية قاصر، وكل عمل خارج اطار البحث العلمي والمعرفة والتطور والحداثة هو عمل يندرج في باب الاستهلاك لا التكسب.

أمور كثيرة تغيرت بين قمتين إلا ان الإنسان بقي هاجس حمد بن خليفة، فالعلم والعمل طريقان إلى التنمية، وضمان السلم والاستقرار طريق لحماية الإنسان ومستقبله لأن الأمن والتنمية «وجهان لعملة واحدة»، والمواثيق الدولية والوكالات الأممية المتخصصة والحوار الحر غير المقيد وغير المشروط وحسن التبصر بالعواقب قبل الانسياق وراء الغرائز كلها طرق تتوافر فيها معايير الأمن والسلامة وتوصل في النهاية إلى نقطة البداية... إلى الإنسان.

بهذه الرؤية، لم يكن غريباً أن يعلن قيام أول سوق خليجية مشتركة من قمة الدوحة ابتداء من بداية 2008 وأن يركز البيان الختامي على القضايا الاقتصادية الملحة مع الاستمرار في مقاربة التحديات الكبيرة بما يخدم مصالح المنطقة لا مصالح الآخرين.

بين قمتين تغيرت أمور كثيرة، أهمها أن الإنسان الخليجي لم يعد أسير شعارات مغلفة وعبارات معلبة. أصبح شريكاً في الرؤية يعرف تماماً اتجاهات الريح و... موقع قدميه.


جاسم بودي

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي