إيران والصين تبنيان امبراطوريتيهما على «أنقاض» سياسة ترامب
• قتل سليماني يعتبر حدثاً بسيطاً جداً أمام مكاسب إيران بتحديها أميركا عسكرياً
منذ انتصار الثورة الإسلامية في إيران عام 1979، رُفِعَ شعار «لا شرقية ولا غربية جمهورية إسلامية». وقد مثل هذا الشعار رغبة الإمام الراحل الخميني الذي رغب بإخراج إيران من السيطرة الأجنبية التي حكمت البلاد لعهود، وتالياً فقد أقرّ الدستور منع إنشاء أي قاعدة عسكرية أجنبية على الأراضي الإيرانية... إلا أن الإدارة الأميركية الحالية بقيادة الرئيس دونالد ترامب دفعت بطهران - بعد تمزيق الاتفاق النووي الذي وقعه الرئيس السابق باراك أوباما - إلى أحضان روسيا والصين، لتوقع اتفاقات تعاون عسكرية إستراتيجية وتجارية لمدة 25 سنة.
ففي عام 2018، عندما نكس ترامب، بالاتفاق النووي الذي وقعته الدول الخمسة دائمة العضوية في مجلس الأمن، بالإضافة إلى المانيا، مع إيران، بدأت الإدارة الأميركية بفرض عقوبات تدحرجية قاسية جداً على طهران عرفت بالأقسى منذ عام 1979. فقد بدأت الولايات المتحدة، العقوبات عام 1979 في عهد الرئيس جيمي كارتر (القرار 12170). إلا أن ترامب لم يترك شيئاً إلا وفرض عليه العقوبات، واستثنى منه الهواء الذي يتنشقه الإيرانيون.
ولم يكتف الرئيس الأميركي، وإدارته بالعقوبات الأحادية غير القانونية، بل هدد أي دولة تتعامل مع طهران مما دفع بالقارة الأوروبية إلى عدم التجرؤ على التعامل مع طهران خوفاً من معاقبة شركاتها التي تتعامل مع أميركا مما سيضر بالاقتصاد الأوروبي. إلا أن الصين رفضت العقوبات الأميركية على إيران واستمرت بشراء النفط منها ولم تتوقف عن التعامل التجاري والقيام بمناورات بحرية مشتركة.
وخاب أمل إيران حين أعلنت ألمانيا، وحدها دون دول أوروبا الأخرى - التزامها العقوبات التي فشلت أميركا بتمريرها في الأمم المتحدة، وهي تقضي بمنع إيران من شراء الأسلحة من دول العالم، وتالياً فقد سقط شعار «لا شرقية ولا غربية»، وبقي شعار التوجه نحو الشرق سيد الموقف من دون ان تكون قواعد عسكرية شرقية في إيران.
وهكذا وقعت إيران اتفاقية شراكة إستراتيجية مع الصين في مجالات الغاز والنفط والأبحاث والتكنولوجيا وشبكة الـ5G والتعاون العسكري وسكك الحديد وبناء المرافئ وتطويرها في مشهد وبوشهر وشهبار، بالإضافة إلى مجالات أخرى تصب في مصلحة البلدين.
ولكن الاتجاه شرقاً لا يعني إنشاء قواعد صينية في إيران، بل تعاون غير مسبوق ولا مثيل له لأن الذهاب غرباً لم يعد أبداً مطروحاً ما دامت الإدارة الأميركية برئاسة ترامب موجودة في السلطة حالياً أو في السنوات الأربع المقبلة. وقد قال السيد علي خامنئي في خطابه الأخير، أنه يتعين على إيران أن تتعايش مع فكرة أن «العقوبات ستستمر للسنوات العشر المقبلة».
وتنظر إيران والصين إلى دولتيهما كقوتين ناشئتين لهما دور كبير ومهم في آسيا وفي الشرق الأوسط. وتعتقدان أن نجم أميركا بدأ بالأفول وأن سيطرتها على العالم ضعفت، وأن روسيا استعادت الدور الذي خسرته عام 1990 عندما بدأ «البريسترويكا» وأفول الدولة السوفياتية السابقة.
ورغم وجود الامبراطورية الصينية والامبراطورية الفارسية في العهود القديمة، فإن الطرفين لم يتحاربا يوماً بل تعاونا تجارياً من خلال «طريق الحرير» الذي تعيد الصين اليوم أمجاده وتشعباته من جديد لتوسعه أكثر بامكانات أعظم (رصد مبلغ 900 مليار دولار)، لتبادل الخبرات والثروات والدخول إلى مناطق نفوذ كل دولة إلى مناطق الدولة الأخرى.
وقد تدهورت العلاقات الصينية - الإيرانية عام 1979 بعد أن دعمت بكين حكم شاه إيران. إلا أن العلاقات استعادت وهجها في العام التالي، بعد أن دعمت الصين، إيران ومدتها بالأسلحة التي تحتاجها إبان الحرب العراقية – الإيرانية ودعمتها في مجلس الأمن لإيقاف الحرب عام 1989.
ومنذ 2001، بعد الهجوم على برجي مركز التجارة العالمي في نيويورك من قبل «القاعدة»، بدأت أميركا حملة دولية لتعيد نفوذها على العالم بطريقة عنيفة فرضتها بالقوة وبإرسال جنودها لاحتلال أفغانستان والعراق حتى وصلت إلى سورية. وقد ساعدها الغياب الروسي عن الساحة الدولية لتصبح الشرطي الوحيد للمنطقة.
إلا أن وقوف إيران في وجه هذا التمدد الأميركي ونجاحها بدعم العراق وسورية ولبنان، أعطاها نفوذاً لا سابق له في عدد كبير من دول المنطقة الشرق أوسطية. وتالياً فإن الصين ترى في إيران شريكاً غير متسلط مثل الإدارة الأميركية، ولا طموح لدى طهران بأن تصبح قوة عظمى تشكل خطراً على الصين مثلما تشكل أميركا.
وقد شجع الصين أكثر بالاقتراب من إيران، تحدي طهران لأميركا وعدم رضوخها لعقود من العقوبات، وتحديها في سورية ولبنان والعراق، وآخرها بقصف قاعدة عين الأسد... وهذه الضربة الإستراتيجية ستحصد نتائجها «الجمهورية الإسلامية» لعقود طويلة لأنها تجرأت على قصف أكبر قاعدة أميركية في العراق من دون أن ترد أميركا عليها، بعدما كانت فقدت أغلى طائرة مسيرة في العالم قبل مدة قصيرة.
وتالياً فان قتل اللواء في الحرس الثوري الإيراني، قاسم سليماني، يعتبر حدثاً بسيطاً جداً أمام المكاسب التي حققتها إيران بتحدي أميركا عسكرياً، وإظهار استعدادها للذهاب إلى الحرب في وجه أكبر وأقوى دولة في العالم.
ولم تستطع أميركا منع إيران من أن تصبح «دولة شرق أوسطية عظمى» على الرغم من كل المحاولات الأميركية لإضعاف طهران وكذلك لم تستطع أميركا منع وجود دول أو تنظيمات أقوى من الدول التي تعمل بها من أن تصبح معادية لواشنطن وموالية لإيران (حزب الله في لبنان، الحشد الشعبي في العراق، سورية في بلاد الشام والحوثيين في اليمن).
وفشل حلفاء واشنطن - وعلى رأسهم إسرائيل - في إخضاع حلفاء طهران وضربهم، بل على العكس فقد ثبتت إيران نفسها في سورية وأنشأت قواعد جديدة لم تكن لتحلم بها. ولم تستطع واشنطن وتل أبيب طرد إيران من الشرق الأوسط. وهذا ما تراه بوضوح روسيا، وكذلك الصين، التي قررت الوقوف مع إيران للاستفادة من نفوذها في الشرق الأوسط.
وقد استطاعت بكين، خلق توازن منقطع النظير في الشرق الأوسط لنسج علاقات اقتصادية وتجارية مع الدولة العبرية وإيران في الوقت نفسه، بينما فشلت واشنطن بتحقيق ذلك فشلاً ذريعاً.
لقد خسرت أوروبا نافذتها على إيران وخسرت أميركا رهانها على اخضاع إيران. ولا يزال ترامب ينتظر قرب الهاتف، الاتصال الإيراني الذي لن يأتي ما دام الاتفاق النووي في سلة المهملات، ممزقاً.
ومن المرجح إعادة انتخاب ترامب لسنوات أربع أخرى، إلا أن طهران لن توقع أي عقد معه بعد شهر من إعادة انتخابه، كما يأمل. وستقفل «الباب الأميركي» ما دام ترامب في السلطة.
إلا أن قرار التوجه نحو الصين لا عودة منه من دون أن يكون «الباب الأميركي» مغلقاً إلى الأبد. إن خسارة أميركا لنفوذها على العالم قد أصبحت واقعاً، كما أصبح مؤكداً بروز قوات أخرى، روسيا والصين وإيران، لم تعد أميركا تستطيع تجاهلها أو الحد من نفوذها.