6 أسعار للدولار في لبنان وتحريره في مرمى خطة الإنقاذ
تُحاصِر أسعار النقد والاستهلاك مداخيل اللبنانيين، وتكاد تُطْبِق على معيشتهم حتى إشعارٍ غير معلوم توقيته ولا نتائجه المالية والاقتصادية، ربطاً بترقُّب مفاعيل موافقة صندوق النقد الدولي على خطة الإنقاذ والتعافي التي قدّمتْها الحكومة بنسخةٍ منقّحة قابلة «للمفاوضة والتعديل»، توخياً للحصول على برنامج دعم مالي وائتمان ميسّر من الصندوق بقيمة 10 مليارات دولار.
وريثما تحسم الدولة مرجعية تحرير سعر صرف النقد الوطني الذي حددته «نظرياً» في الخطة عند مستوى 3500 ليرة لكل دولار ورمت مسؤولية اتخاذ القرار في أحضان حاكمية البنك المركزي، يلتزم اللبنانيون المتابعة الحثيثة لتقلّبات النقد اليومية والسريعة الوتيرة، ليس شَغَفاً بالبورصة والاستثمار، إنما تَحَسُّساً لقيمة ما يملكون في جيوبهم وودائعهم في البنوك. وبحيث لم يعد مصطلح النقد يعني «العملة» حصراً بل تَعَدّاه «حسابياً» الى جمْع التقلّص المتوالي للقدرات الشرائية للمداخيل والى قياس الدخول في حزمة الفقر التي تتّسع بوتيرة موازية لتضم نحو 60 في المئة من المواطنين.
وتحوّلت فوارق تسعير العملات الصعبة في أسواق بيروت الى أحجيات مُرْبِكة لكلّ المعاملات النقدية والاستهلاكية اليومية، في ظلّ اتساع الهوامش الى ما يماثل ثلاثة أضعاف تقريباً بين السعر الرسمي لليرة اللبنانية عند مستوى 1520 ليرة لكل دولار والسعر السوقي لدى صرّافي السوق السوداء الذي لامس 4500 ليرة. وبين الحدّيْن، يتسع «الملعب» لاعتماد سعر 3000 ليرة للصرف من حسابات الدولار (ما فوق 3 آلاف $) غير المتوافر نقداً من البنوك، وسعر 3200 ليرة لتبديل الدولار الوارد من الخارج عبر الشركات المالية غير المصرفية وهو السعر نفسه الذي حدده تعميم مصرف لبنان للصرّافين الشرعيين (ينفّذون إضراباً منذ أيام وتم توقيف نقيبهم محمود مراد بتهمة التلاعب بسعر الصرف). وبذلك أصبح الدولار النقدي (البنكنوت) متوافر حصراً للتحويلات الجديدة (Fresh money ) الواردة عبر البنوك. فيما «يُقْرِض» البنك المركزي المصارف بالسعر الرسمي مضافاً اليه فائدة بنسبة 20 في المئة، أي بسعر 1800 ليرة، لتغطية عمليات استيراد محصورة بالسلع الأساسية.
وبالتوازي مع «فسيفساء» الصرف، يسطع وضوحاً انحدار الحد الأدنى للأجور البالغ 675 ألف ليرة الى نحو 160 دولار حالياً، وتهبط المداخيل كافة بالليرة الى ثلث قيمتها السابقة في القطاع العام الذي يقارب عديده 350 ألفاً من مدنيين وعسكريين، وصولاً إلى تدهورها المريع في القطاع الخاص الذي تربو عمالته على 700 ألف، انضم نحو ثلثهم الى البطالة التامة أو الجزئية، وخسر غالبية «الصامدين» منهم بين 40 و60 في المئة من أصل الأجور، أي قبل احتسابها على سعر الدولار أو أسعار الاستهلاك. ولا تَسْلم تعويضات نهاية الخدمة من «التآكل» أيضاً إلى الحد الذي سيستقر عليه هبوط النقد الوطني.
واقعياً، ترسو المعادلة على فوضى نقدية لم يألفها المواطنون منذ أكثر من 23 عاماً متتالياً أعقبت تثبيت سعر الليرة بهامش ضيق بين 1501 و1515 ليرة للدولار، مسبوقةً بخمسة أعوام من التحسن المضطرد والتواصلي بعد صعود موقت للدولار الى مستوى 2980 ليرة في اوائل التسعينات من القرن الماضي.
ومع سيطرة الادخار بالدولار على متوسط يقارب ثلثيْ ودائع الزبائن في الجهاز المصرفي، كانت المدفوعات اليومية تتم بانسيابية تامة بالعملتين نقداً أو بواسطة بطاقات الدفع الالكترونية للسحوبات ولسداد أثمان المشتريات، لدرجة الاعتياد على سعر 1500 ليرة كقاعدة حسابية سهلة. علماً أن الحسابات الدولارية تحوز حالياً نحو 78 في المئة من إجمالي الودائع البالغة نحو 150 مليار دولار، إنما السيولة بالدولار معقمة بشكل قاس يحدّ من استفادة المودعين لتعويض تدهور الليرة والارتفاعات الصاروخية في أسعار الاستهلاك.
واذ تشير دراسة حديثة نشرتها «مؤسسة البحوث والاستشارات» الى أن تضخّم سعر الصرف لا يزال أعلى من تضخّم أسعار الاستهلاك، بالرغم من أن أسعار السلع الإفرادية قد تجاوزت نسبة ارتفاع الدولار تجاه الليرة، فإن أسعار الاستهلاك، ولأسباب موضوعية موصوفة في تقرير المؤسسة، «لم تأخذ مداها الفعلي إلى الآن، بما يعكس ارتفاع سعر صرف الدولار، وهي مرشحة لمزيد من الارتفاعات في إطار دينامية تغذّي نفسها بنفسها في المدى القصير والمتوسط. وانخفاض قيمة الليرة مقابل الدولار يدفع نحو المزيد من التضخّم الذي ينعكس ارتفاعاً في أسعار السلع فتزداد الضغوط على الليرة لتدفع الدولار نحو مزيد من الارتفاع».
وفي انتظار معالجات معقّدة على مسارٍ ليس بقصير ودونها عقبات جمة، سياسية وموضوعية، تتفشى أسباب المعاناة وانقياد ثلثي المقيمين الى خطوط الفقر، ليأتي وباء كورونا بفعل إضافي، فارضاً، الى جانب مخاطره الصحية وتكلفة الوقاية والتعقيم، التعطيل القسري الطويل في غالبية قطاعات العمل والإنتاج، منذ أواخر شهر فبراير الماضي وحتى انفراجٍ منشود، مستهلكاً جزءاً إضافياً من المدخول بعدما استنفذ الاجازات المتبقية من العام الماضي وكامل اجازات هذا العام.