هل ينقلب النموذج المصرفي على مؤسساته؟

المودعون والليرة اللبنانية ضحايا صراع الحكومة والحاكم

No Image
تصغير
تكبير

نَقَلَ خروجُ صراع الإرادات الى العلن بين حكومة الرئيس حسان دياب وحاكمية مصرف لبنان التي يديرها رياض سلامة، الوضعيْن المالي والنقدي إلى مشهد جديد يتماهى في خلفيته مع استعادة الانقسامات السياسية التي اختبرها لبنان في محطات متعددة في العقود الثلاثة الماضية، انما باختلافٍ جوهري تمثّل بالتحييد السابق للبنك المركزي ومحض الثقة الجامعة، رغم اعتراضات مبطّنة، للاستراتيجيات النقدية التي قادها سلامة نفسه بدءاً من الولاية الأولى العام 1993، وصولاً الى الولاية الخامسة التي تنتهي صيف 2022.
وليس خافياً على أحد، أن تَدَهْوُرَ سعر صرف الليرة واستنزاف قوة التدخل لوقف الهبوط الإضافي في الأيام المقبلة، وَضَعَ السلطة التنفيذية في حَرَج. وهي كانت للتو بلغت حدود التأزم بين مكوّناتها بفعل النزاع على التعيينات المالية في مراكز حساسة تتبع للسلطة النقدية وتشكيلة الهيئة المصرفية العليا، بعدما فشلت بدايةً في تمرير مشروعها للاقتطاع من الودائع في الجهاز المصرفي، ثم فشلت تكراراً في تسويق الجانب المالي من خطة الإنقاذ التي عملت عليها مع مستشارها الدولي (شركة لازارد).
وشكل استئنافُ التحركات الشعبية والتوعّد بتصعيدها عقب التحلل من قيود «كورونا» الصحية حَرَجاً إضافياً لحكومة دياب، باعتبار ان استيلاد الحكومة جرى على وقع الاحتجاجات العارمة التي انطلقت في 17 اكتوبر من العام الماضي، وفرضتْ استقالةَ الحكومة السابقة برئاسة سعد الحريري. وزاد في الطين بلّة ضعف الأداء والإشكال «المعنوي» الذي وصم الحكومة ورئيسها خلال انعقاد الجلسات النيابية التشريعية في الأسبوع الماضي.
واستناداً لهذه القراءة التي أوْردها مسؤولٌ مالي تحدّثت إليه «الراي»، فإنّ نقْل «المعركة» الحكومية الى ميدان البنك المركزي والذي أعقب محاولة مماثلة للضغط المشدّد على الجهاز المصرفي، لا يعبّر عن «فشة خلق» واستفراد بضحية على مذبح الانهيار فحسب، إنما يعكس جدية التباعد في مقاربة الهوية الاقتصادية للبلاد ودور البنك المركزي وصلاحيات «الحاكم» ومرجعية القرار النقدي. فالأصل أن البُعد المالي والانفتاح على الأسواق الدولية يمثّل النواة الصلبة لاستراتجية إدارة البلاد التي جدّد أسسها الرئيس الراحل رفيق الحريري واختار بنفسه سلامة لقيادة إحدى أهمّ مؤسساتها المرجعية وذات اليد الطولى بإدارة النقد. وبذلك يمكن فهْم الردّ المطوّل والحاد الذي صدر عن الرئيس السابق سعد الحريري.
وحول التداعيات المرتقبة للصِدام العلني المستجدّ، يلفت المسؤول المالي إلى حساسية الأسواق المتدهورة حيال أي تصرفات غير محسوبة أو مفاجئة. وتَوَعُّدُ سلامة بالردّ سيزيد أجواء التوتير التي أفضت الى فوضى نقدية غير مسبوقة في تاريخ لبنان الحديث حيث وصل سعر الدولار إلى سعر قياسي عند أربعة آلاف ليرة. ومن غير المستبعد أن تصبح هذه العتبة مدخلاً لانهياراتٍ أشد وطأة تقود القطاع العام والقطاع المصرفي المتكىء الى حائط متداعٍ صوب الحفرة العميقة التي وَقَعَ فيها القطاع الخاص بأعماله وبعَمالته.
«في حقيقة الأمر، نحن في قلب دوامةٍ خطيرةٍ وقد تُطْبِق على مَن في داخلها» كما يؤكد المسؤول، «فالدولة تنأى بنفسها وبديونها وتحمّل المسؤولية للبنك المركزي وللقطاع المصرفي. والطرفان المتهمان امتلكا أخيراً جرأة وضْع النقاط على حروف الأزمة. فتم استفراد البنك المركزي وتحييد المصارف مؤقتاً، ولم يَبْقَ في قلب الدوامة سوى المودعين ومدّخراتهم. علماً أن مساعٍ معلنة ومخْفية بدأتْ فعلاً لمحاولة احتواء الموقف وتداعياته ولثني سلامة عن الردّ، لا بالاستقالة الطوعية ولا بتفنيد مجالات صرْف الاحتياطات درءاً لفراغات سياسية وتلبية لموازنات أقرّها مجلس النواب بكل ألوانه من المؤيّدين والمعارضين للحكومة الحالية».
يضيف: «الفجوةُ المالية لا تحتاج الى تدقيقٍ ما دامت الدولة مدينة بنحو 92 مليار دولار. وللتبسيط، فإن الدين الخارجي لا يتعدى 15 مليار دولار، والباقي الأعظم محمول من المصارف والبنك المركزي. وكون جلّ هذه الديون مَصْدَرها الأصلي يعود لودائع الزبائن في البنوك من مقيمين وغير مقيمين، يمكن الاستنتاج بأن أي غنم ستطاله يد الدولة طوعاً أو قسراً، سيقابله غرم على حسابات المودعين ذوي الجيوب الفارغة والذين يَسْتَجْدون بكل فئاتهم الحصولَ على عملةٍ صعبةٍ نادرةٍ ويتكبّدون خسائر التوظيف بالليرة والتحويل إليها، وسط عشوائية في تسعير الدولار والتمييز بين الحسابات، باستثناء (حتى إشعار آخَر) الأموال الجديدة Fresh money».
ووفقاً لأحدث البيانات المصرفية المجمعة الخاصة بالموارد الماليّة للمصارف، فقد تراجع إجمالي الودائع (قطاع خاص وقطاع عام) بنسبة 4.4 في المئة، توازي نحو 7.2 مليارات دولار بالأسعار الرسمية (الرقم عيْنه الذي ذكره رئيس الحكومة في مطالعته الأخيرة) خلال الشهرين الأوّلين من 2020، لتصل إلى نحو 156.55 مليار دولار. وتَوَزَّعَ التراجع بين انكماش ودائع القطاع الخاص المقيم بنسبة 3.95 في المئة ليصل إلى 121.4 مليار دولار، وبين تدنّي ودائع القطاع الخاص غير المقيم بنسبة 6.63 في المئة ليصل الى 30.3 مليار دولار، إضافة إلى تراجع ودائع القطاع العام بنسبة 1.26 في المئة لتبلغ 4.83 مليارات دولار«.
في كتابه القيم»وراء أسوار مصرف لبنان«، يشهد النائب الأسبق لحاكم مصرف لبنان غسّان العيّاش (1990 - 1993)، أن ضابطًا من قوى الأمن ومعه 14 عنصراً مسلّحاً طلب من الحاكم آنذاك ادمون نعيم»الحضور معه إلى مكتب وزير الداخلية لشرب فنجان قهوة«. لكن الحاكم امتنع عن مرافقة الضابط الذي»أمسك ومرافقيه بالحاكم من قدميه وجرّوه إلى الخارج فيما رأسه على الأرضّ«!، إلى أن ساعَدَهُ موظّفو المصرف والحراس على التفلت. والسبب هو الخلاف بين نظرية نعيم الاستقلالية ورغبة السلطة في الهيْمنة على مصرف لبنان والتحكم بموارده ومقدّراته. فهل تقتصر السابقة مع سلامة»المُتَّهَم«على الدعوة إلى»المبارزة الكلامية" على المنابر؟.

 

 

 

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي