No Script

«الراي» عاينتْ الواقعَ المعيشي على الأرض

في السوبر ماركت.. لبنان الذي كان صارَ في «خبر كان»

No Image
تصغير
تكبير

 ... لم يعد لبنان هو تلك البلاد التي رَسَمَها الرحابنة بريشةٍ من أحلام، أو التي غالباً ما فاخرتْ بأنها قاهرةُ الأزمات، أو الوطن الذي هَزَم الحروب. إنه الآن لبنان آخَر كأنه يعود، ودفعة واحدة، إلى ما قبل ماية عام من الكوابيس التي لم تغادر الذاكرة المشحونة بالقليل من الأبيض والكثير من الأسود.

ففي لحظة الانهيار المالي واقتراب شبح الإفلاس في المئوية الأولى من عمر لبنان، لم تعد تنفع "ورقة التوت" التي يكابر خلْفها الذي يهوون الإنكار.. يكفي عرض أرقام البطالة والغلاء أو التأمل في الرسوم البيانية لخط الفقر ومراقبة معدلات إنهيار الليرة أو الإطلاع على أعداد المؤسسات التي أُقفلت.

في البيت وعلى المقاهي، في الشارع وأمام المتاجر، على المنابر وفي برامج التلفزة "طَبَقٌ واحد" من أحاديث اللبنانيين وهمومهم ... إنه البؤس الذي لم تشهده البلاد حتى في أيام الحروب، والعوَز الذي لم يكن ألفه السواد الأعظم من اللبنانيين، وسوء الحال الذي يغزو عائلات وكأنه لم يعد في ... اليد حيلة.

وأكثر ما يقلق اللبنانيين، الذين "سُجنت" مدخراتهم في المصارف وقَضَمَ القطاعُ الخاص "نصف رواتبهم" وإلتهم تهاوي سعر صرف الليرة (ناهز 2700 ليرة  أخيراً) قدرتَهم الشرائية، هو الكلام الدائم وبـ "مكبرات الصوت" عن الأسوأ الذي تُخْفيه الأزمة الثلاثية الأبعاد ... السياسية والمالية والمعيشية، غير المسبوقة على الإطلاق.

... إنها الفاتورة وما أدراك ما الفاتورة التي صارت في السوبرماركت أو المتجر أو الحوانيت أشبه بـ "وصْفة فَزَعٍ" بعدما إرتفعت الأسعار وتَعاظَمَتْ أرقامُها ... فولائم أيام العز ربما تحوّلت إلى "طَبَقٍ مُرّ" في البيوتات التي يسكنها القلقُ من الآتي في زمنِ الشح والإنهيار والوعود بإجراءاتٍ مؤلمة.

ومَن لا يصدق يكفيه مرافقة «الراي» في جولتها على السوبرماركت والدكاكين وسماع الأحاديث عن "جنون الأسعار" والغلاء الفاحش وحليب الأطفال والسلع التي صار اسمها "استراتيجية"، عن العيْن البصيرة واليد القصيرة وما شابَهَ من كلام ينطوي على نَمَطٍ جديد من حياة اللبنانيين.

تقف رنا وزوجها أمام خطّ متراصٍ من عبوات الحليب، ويحاولان التوصّل إلى الصيغة التي تُجيب على احتياجاتهما الثابتة وسط تضخّم الأسعار. يطالعانها ويطّلعان على جودة المنتجات بحسب المعلومات المتوافرة على الأغلفة، وفي نهاية الأمر يتوافقان على أحد الخيارات. وعند سؤالهماعن السلّة التي سيعودان بها إلى المنزل، يرسمان ابتسامة تُخْفي خلفها غَصة ويؤكدان أنهما حضرا لشراء الأكثر ضرورة على سلّم الأولويات مع التخلّي عن غير الضروري الذي وجب عليهما الاستغناء عنه تحت وطأة الظروف القاهرة.

سُعاد التي تشكو بدورها من أسعار أحد المتاجر بعدما خرجت منه بكيسٍ واحد على عكس ما درجت عليه عند التبضّع قبل حلول الأزمة، تلفت إلى أن هذا المتجر رَفَعَ أسعارَه بشكل غير منطقي مقارنةً بإرتفاع سعر الدولار، بما ينمّ عن إستغلاله الأوضاع ليراكم أرباحه من جيوب الفقراء، موضحةً أنها لم تقرب البضائع غالية الثمن، بل اشترت بعض السلع "الرخيصة" والموضّبة على شكل عروضات.

"يفوق الغلاء كل تصوّر، لا يُعقل هذا الأمر، كيف لنا أن نُطْعِمَ أطفالنا؟"، بأسى تتحدّث ناديا لـ "الراي" عما شهدتْه في إحدى التعاونيات الإستهلاكية، ثم تفتح كيس المشتريات لتؤكد أنها لم تشترِ الكثير. وبينما تعرض الفاتورة، تتساءل إن كان بمقدور اللبناني العيش "بعدما إرتفعت الأسعار بنسبة تصل إلى 50 بالمئة في موازاة خسارته الكثير من قيمة مدخوله الشهري وحرمانه مدخراته المسجونة في المصارف".

ناديا التي تعاني هي أيضاً من حسم نصف راتبها بفعل التدهور الذي تعيشه المؤسسات في لبنان، تكشف صراحةً أنها تقوم بدرس الخيارات الأقل تكلفة في ما يتعلّق بالتسوّق عبر سؤال أصدقائها عن الوجهات الأوفر، حتى لو اضطرّها الأمر إلى قيادة سيارتها خارج بيروت ـ حيث تقطن ـ بإتجاه متاجر توفّر على جيْبها آلاف الليرات. ولا تُخْفي سرّاً بأنها باتت أقل إكتراثاً بالجودة أمام "فجيعة" الأسعار، وما يهمّها سدّ رمق عائلتها التي تخاف عليها من المجهول وسط ضبابية المشهد اللبناني.

بعكس ناديا، لا يخشى عبداللطيف على أولاده"المهاجرين" فـ "الغربة رحمة هذه الأيام" بحسب ما يقول، رغم أنه حُرم من رفقتهم في سنوات شيخوخته التي يجد نفسه ملزماً فيها على التنقل بين متجر وآخَر باحثاً عن الأسعار الأفضل. وإذ يشكو الأسعار المرتفعة أينما كان، يُردف: "الوضع مخيف، فقبل الأكل والشرب، الراحة النفسية باتت مفقودة".

هذا الواقع المُرّ، تحدّث عنه رئيس جمعية "المستهلك" زهير برو، الذي رأى عبر «الراي» أن "لبنان يشهد أزمة استثنائية لم يشهدها في تاريخه سابقًا"، كاشفاً أن أسعار المواد الغذائية "تشهد ـ وبحسب آخر إحصاء للجمعية ـ زيادة بحدود 45.32 بالمئة".

وأشار الى ان «صرخة المواطنين أمام رفوف السوبرماركت نتيجة ارتفاع الأسعار ناجمة عن تراكماتٍ طويلة أولها، وقبل بدء الأزمة، من كون المعيشة في لبنان أغلى بـ 30 بالمئة من كل دول المنطقة. واليوم مع الفوضى القائمة والمضاربات على الدولار وانهيار الليرة وغياب السلطات الرسمية عن أي نشاطٍ جدي لإيجاد حلول للأزمة الراهنة، فإن التجار "يفلتون عالآخر" ويستفيدون من الظرف. وعلى غرار ما يحصل في كل دول العالم، عندما تغيب الدولة يكثر المضاربون وصيّادو الفرص".

وإذ أكد أن "الاقتصاد اللبناني حرّ على الورق، فيما يسيطر الإحتكار على غالبيته منذ عقود"، يضيف: "ما من قطاع في لبنان لا يخضع إما لاحتكار مباشر مع حماية القانون للوكالات الحصرية، أو احتكاراتٍ مبطّنة غير معلَنة باتفاقات يعقدها التجار بين بعضهم البعض وتحت الطاولة بغرض رفع الأسعار وتَقاسُم السوق".

ما على الدولة فعله في رأي برّو يتلخّص بأربع خطوات للجم الأسعار "الخطوة الأولى والأساسية هي توسيع الأمن الإجتماعي والغذائي للبنانيين ليطال كل أنواع الحبوب واللحوم والأجبان والألبان، لأنها تشكل إضافة إلى المحروقات والدواء والقمح، أساسَ غذاء اللبنانيين وأمنهم الإجتماعي، ولا سيما الفقراء منهم".

الخطوة الثانية وحيث هناك احتكار في أي قطاع، على الدولة أن "تقوم هي باستيراد كل السلع التي ترى أن أسعارها أعلى من السعر العالمي بكثيرمن دون المرور بالتجار"،ويضيف: "ثالثاً لا بد من استخدام الليرة بدل الدولار في التعاملات الداخلية، ولا سيما أن عملية الدولرة توجِد صغطاً مستمراً ودائماً. وفي وقتٍ لم تعد هناك أي ثقة بالليرة اللبنانية، نجد أن 99 بالمئة من الموظفين في لبنان يتقاضون رواتبهم بالليرة وتراجعت قدرتهم الشرائية بين 60  إلى 62 بالمئة نتيجة انهيارها".

وتابع: "الخطوة الرابعة المطلوبة تتمثل في إلغاءقانونالتمثيلالتجاريرقم 34/1967 الذيأقرّالحمايةالقانونيةللوكالاتالحصرية، والذهاب نحو تحرير الإقتصاد".

ولفت إلى أن "عدداً كبيراً من اللبنانيين يعملون في الخارج، ورؤوس أموالهم غير مقيّدة كالتجار والصناعيين هنا، ولا بد من فتح أبواب المشاركة في عملية التجارة مع لبنان أمامهممندونعوائقومندونالخواتالتيتفرضهازعاماتالطوائفوحاشيتها". وخلص في هذا الإطار إلى أن "لبنان ليس فقيراً، ولكن هناك سيطرة مافيات على البلد، ولعقود من الزمن، تحت اسم الطائفية والدفاع عن الطائفة".

إلى ذلك، وعن التخوّف من شبح المجاعة الذي يبعث في الأذهان صوراً من تاريخ "بلاد الأرز" قبل ما يزيد عن مئة عام، أكد رئيس نقابة مستوردي المواد الغذائية في لبنان هاني بحصلي لـ "الراي"أن "ما من مجاعة في لبنان"، معتبراً أن هذا الأمر لا علاقة له بالبطالة وأن غلاء الأسعار مسألة أخرى،لافتاً إلى "أننا لم نصل إلى مرحلة المجاعة واختفاء البضائع من الأسواق، وما زلنا بعيدين عن ذلك في الوقت الحاضر".

وأوضح بحصلي أن التجار يؤمّنون الدولار "بصعوبة، لكنه موجود، ونسمع حالياً مع تشكيل الحكومة الجديدة عن نية وضْع خطة معينة، ونحن بانتظار أن تقدِّم لنا الخطوات"، مضيفاً: "ما دامت عملية تحويل العملة لشراء مواد أولية ما تزال مستمرة، وهي صعبة ولكن غير مستحيلة، على الناس عدم طرح عناوين عريضة وكبيرة مثل حدوث مجاعة".

وإذ رأى أن الأسعار في السوبرماركت زادت بنتيجة فارق العملة، اعتبر أن "الأمور توضع دائماً في غير إطارها، فيُقال أن المواد ارتفع سعرها، بينما في الواقع العملة هي التي انخفضت قيمتها الشرائية أمام الدولار ونحن موادنا مستوردة"، مضيفاً: "بالتأكيد هناك بضائع ستنقص، وأخرى سيعْدل الناس عن شرائها إذا ارتفع سعرها بشكل كبير. لكن أن نصل إلى القول إن في لبنان مجاعة، فهذا أمر مستبعَد".

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي