No Script

جدران عزْلٍ وصفائح سود في... عاصمة السلطة وقلْب الثورة

زمن الصفيح الساخن «يستوطن» وسط بيروت

u062cu062fu0631u0627u0646 u0639u0632u0652u0644 u062au064fu0639u0652u0644u064a u0627u0644u0635u0648u062a... u0628u0627u0644u0634u0639u0627u0631u0627u062a t(u0627u0644u0631u0627u064a)
جدران عزْل تُعْلي الصوت... بالشعارات (الراي)
تصغير
تكبير

ما من منطقة في لبنان تُنافِس «وسط بيروت» على صدارة الأحداث، حُلْوِها ومُرِّها. فهي القلبُ الذي استعاد خفقانَه سريعاً بعد الحرب، ووجهةُ السياح بلا مُنازِع أيام الرخاء، ومستودعُ الانقسام السياسي المدوّي مع «8 و 14 مارس»، والخيمةُ الدائمة التي يلجأ اليها المحتجون... وها هي الآن عاصمة الثورة وساحاتها بامتياز ومسرح المواجهة المُتَدَحْرِجة بين الانتفاضة والسلطة.
وسط بيروت المسكون بمبانٍ يتآخى فيها التراث مع الحداثة ويحتضن المؤسستين الأهمّ في الدولة، البرلمان والحكومة، هو الآن مساحة مزروعة بخيم الثورة والعوائق الحديد والدشم الأسمنتية والبوابات السود، والجدران العازلة التي رفعتْها السلطة لحماية مقارها من غضب الناس، جدرانٌ لا يمكن عزْلُها عن «ذاكرة برلين» ومكيدة «الخط الأخضر» في الضفة أو ما يتربّص بالمكسيك.
تأخذ عبارة «ما بعد 17 أكتوبر ليس كما قبْله» بُعْداً مَكانياً في وسط بيروت الذي صار يختزن ما يطالب به اللبنانيون المُنْتفضون منذ 118 يوماً.


ومَن يعرف الوسط التجاري للعاصمة، يُدْرِكُ التبدّلَ الاقتصادي الذي طرأ في الأعوام الـ 15 الأخيرة على هذه التسمية، وتَراجُع حيويةِ المكان بإقفال المؤسسة تلو الأخرى، حتى بدتْ «سوليدير» منطقةً مقفرةً تماماً في عدد من شوارعها. ومَن يعرف «البلد» كتسميةٍ شعبيةٍ لمنطقةٍ شهدتْ الكثير في السلم والأكثر في الحرب ثم «قامت من تحت الركام» بعد ورشة الإعمار، يُدْرك أيضاً أنها خسرت روّادَها تباعاً وعلى مدى الأعوام الماضية بسبب اعتصامات هنا وإجراءات أمنية وتحصينات هناك.
وعليه، فإن الجديدَ الذي يلمسه مَن يتعرّفون إلى وسط بيروت بمشهديته الجديدة ـ وإبان ما بات يُعرف بزمن الثورة ـ يعكس تعديلاً في المفهوم شبه الانسيابي للمكان، وتبديلاً إضافياً في أنماط الجدران، ما حدا بأحد المارّة إلى القول «لم يتبقَّ في الوسط سوى الحيطان».
البداية من انفلاش رقعة الحواجز الحديد، التي حدّت بدورها من المساحة الفعلية لـ «ساحة الشهداء» التي اختارتْها «الثورة» معقلها الرئيسي الذي ترتفع فيه «قبضتها - الشعار». هنا، يفصل خطٌّ أفقي محيطَ مسجد محمد الأمين وتجمُّع خيم المنتفضين عن الصيفي فيلدج شمالاً، فيما يُبْعِدُ خطٌ آخَر مماثل هذه الرقعة عن مبنى جريدة «النهار». وما بين المساحتين الواقعية والافتراضية، يضيق الفضاء بكمِّ الحديد المتراص والمبعثر وباكتظاظ المطالب وتَعَدُّد الشعارات المنقوشة على الجانبين.
في محيط السرايا الحكومية، تمنح رسوم الغرافيتي والكتابات التي خُطّت بالألوان امتداداً لكل الجدران، القائم منها في ساحة رياض الصلح منذ زمن، وكذلك تلك المستحدثة أخيراً لعزْل مقر الرئاسة الثالثة (رئاسة الوزراء) عن تحركات المتظاهرين.
غير أن الشعارات وإن «حُفرتْ» على «بلوكات» الإسمنت لتعبّر عن رفضها لها ـ بوصفها «جدران العار» ـ كما عن «نَبْذِ» الطبقة السياسية الحاكمة، فهي تتلاقى تحت عنوان «لبنان ينتفض» وتتماهى مع شعار «كلن يعني كلن» ومع مطلب «يسقط حكم المصرف».
وفيما تُجاوِرُ هذه البلوكات أخرى تُحَصِّنُ مبنى «الإسكوا» وملأتْها أيضاً الرسوم، فإن مغادرة هذا الشارع من جهة مبنى «الإسكوا» يعني القفز فوق الحواجز الإسمنتية متوسطة الارتفاع والتي تسدّ المنْفذ باتجاه الطريق العام.
وإذا كانت «السرايا» الحكومية تحصّنت بالإسمنت، فإن مقرّ مجلس النواب لا يُمكن رؤيته بالعين المجرّدة، لوقوعه خارج مرمى النظر بفعل إغلاق كل المنافذ المؤدية إليه، إن لم يكن بالحواجز الحديد ولفائفَ من الشريط الشائك، فبالجدران الاسمنتية مرة أخرى. والمتظاهرون الذين حاولوا مراراً الولوج إلى محيط البرلمان، بادروا إلى كسر «السدّ» افتراضياً عن طريق رسْمِ يديْن تفتحان «الأسوار»، وبشعاراتٍ مُناهِضَةٍ للسلطة والفساد والإفقار لم تخلُ ـ كما في كل الأرجاء ـ من الشتائم.
ووسط ثورة المطالب وفورة الألوان، وفي الصورة البانورامية لوسط بيروت الذي اختُصرت رمزيته الاحتجاجية بالمنطقة الممتدّة بين السرايا الحكومية وساحة الشهداء (من دون أن يلغي ذلك أثر التطورات غالباً على كل شوارعه)، تخطف الأنظار في موازاة ما بقي مِن آثار أعمال التخريب التي طاولت محالاً وأعمدة خارجية للمباني خلال احتجاجاتٍ انزلقتْ قبل نحو اسبوعين نحو أعمال شغب وتكسير، صفائح سود ضخمة هي واجهات حديد صلبة، تُغطّي مداخل وجوانب عدد من المؤسسات التجارية، ويؤمل منها ردُّ أي اعتداءاتٍ أو «شظايا» للمواجهات بين المحتجين والقوى الأمنية، وحماية المحتويات.
ورشة «التدعيم» هذه كانت مرّت على السوق التجارية وأدخلت الأسود القاتم إلى اللون القمحي الذي يُميّز الأبنية المُرمّمة، في إشارةٍ بدت وكأنها توحي بإصرار على البقاء بدليل اتخاذ الاحتياطات اللازمة، بخلاف محال تجارية أبلغت زبائنها بتنويه على الزجاج عن انتقالها إلى فروع أخرى، في حين اكتفت بعض المتاجر بالإغلاق دون أي إشعار، الأمر الذي يجد ما يُفسّره في ندرة الحركة نهاراً في السوق، رغم التنزيلات التي تصل إلى حدّ 70 في المئة.
... إنه «الصفيح الساخن» الذي يترنّح فوقه لبنان، يمرّ في قلب العاصمة التي خلعتْ قبل نحو ربع قرن «أَسْود» الحرب الأهلية وثوبها «المرقّط»، لتجد نفسها اليوم تغزوها الصفائح السود و«الدشم» كأنها متاريس بين السلطة وشعبها في مستهلّ ثورةٍ تحلم بنهاية «بيضاء» لكوابيس حوّلت «بلاد الأرز» علبة فواجع سياسية - مالية - اجتماعية.

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي