يُحكى أن غاندي كان يجري بسرعة للحاق بالقطار. وقد بدأ القطار بالسير، وعند صعوده القطار سقطت من قدمه إحدى فردتي حذائه، فما كان منه إلا خلع الفردة الثانية، وبسرعة رماها بجوار الفردة الأولى على سكة القطار، فتعجب أصدقاؤه وسألوه ما حملك على ما فعلت؟ لماذا رميت فردة الحذاء الأخرى؟ فقال غاندي الحكيم: أحببت أن يستفيد الفقير المحتاج من فردتي الحذاء، فلو وجد فردة واحدة فلن تفيده ولن أستفيد أنا منها أيضاً.
عجيب أمر هذا الرجل الذي يسارع إلى ركوب القطار والوصول إلى هدفه قبل فوات الأوان، وقد امتلأ ذهنه بغبار الزمن المزعج وآثار الاستعمار الإنكليزي بسرعة تفوق سرعة القطار واللحاق به. عجيب فكر هذا المخلص لوطنه وشعبه، وهو يفكر بآخر ضعيف فقير لا يعبأ له ولا يسمع عنه ولا يعرف... فيترك حذاءه لينتفع به آخر مجهول من أبناء وطنه.
لم ينسَ غاندي قيمه النبيلة ومبادئه السامية حتى وهو يسارع الزمن للحاق بالقطار... لم ينسَ غاندي الجزئيات الصغيرة لينشغل بالكليات الكبرى فيدعها حتى يعود... بل يدرك غاندي أن الزمن ومتغيرات الحياة سريعة كسرعة القطار، ولا بد من اللحاق بها للوصول إلى تحقيق اهداف الوطن الكبرى، لكنه يدرك أيضاً أهمية تحقيق الأهداف الصغرى، وأنها تشكل مع غيرها نجاح النهضة التي يسعى إليها غاندي.
هناك موازنات وأولويات كثيرة في حياتنا تحتاج إلى إعادة ترتيب وتنظيم. قد نظن أننا أحسنا اختيار كثير منها، ثم نفاجأ بأننا لم نكن موفقين في ذلك. ربما لأننا منحنا المنطق والعقل فوق صلاحياته وأهملنا الحدس والفراسة وصوت الداخل فينا وركناه جانباً... ربما!
لماذا عندما تتدافع أولوياتنا مع أولويات المجموع نقدم أولوياتنا وندع المجموع جانباً؟ لماذا نقدم «الأنا» على «نحن»؟ وهل «أنا» إلا جزء من «نحن»؟ لماذا في غمرة أحداث الحياة وأزماتها ننسى أننا أفراد ضمن جماعات ومواطنين ضمن أمة؟ لماذا عند سيرنا إلى تحقيق أهدافنا الخاصة نتجاهل حاجة الوطن وصيحات الاستغاثة التي لا يسمعها إلا المخلصون؟
نحن نعيش بين الجزئيات والكليات... بين فروع وأصول. لا يجب أن تتداخل تلك الخيوط مع بعضها البعض. لكن لا يجب أن تتعارض وتختلف. ففقه الموازنات الدقيق يقينا كثيراً من التخبط الذي تعانيه الأمة والوطن.
عند سعينا الدؤوب نحو أهدافنا الخاصة ننسى في زحمة هذا السير قيمنا النبيلة ومبادئنا السامية فتغيب الموازنة بين ما نسعى إلى تحقيقه وما نعيشه من واقع يحتاج إلى تغيير... ولكل اجل كتاب.
مبارك الذروة
كاتب وأكاديمي كويتي
[email protected]