هل رأيتم داراً بلا باب إلا أن تكون خراباً؟ هل سمعتم عن قطر من الأقطار بلا حراسة تؤمن حدوده في البر والبحر والجو؟ إذا كانت الحماية واجبة على أعلى مستوى، فما الرأي في بلد كالكويت لا يوفر الحماية لثرواته، وبيوت أمواله وأراضيه وقيمه وتراثه بلا حماية، الأمر الذي أغرى كل طامع أثيم... والنتيجة تصدع هياكلها الأخلاقية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية؟ أما الاحتجاج بان لدينا أجهزة رقابية متعددة يدحضه، بل ينسفه من قواعده، أن كل جهاز يعمل بمعزل عن الآخر، وأن لكل جهاز حداً مرسوماً لا يذهب إلى أبعد من كتابة تقرير يرفع إلى حيث لا نعلم. والمحصلة أن فاعلية الأجهزة هذه غير محسوسة، وغير مقنعة، إذ كثيراً ما نسمع عن شبهات تحوم حول شخصيات معينة، ثم نفاجأ بأن هذه الشخصيات بعينها قد أُوكلت إليها مهام قابضة.
والأدهى من ذلك أن هناك قياديين محترفين يمارسون هذه الأدوار المشينة منذ عقود من مناقصات تتراوح بين مئات الملايين، وهم في مواقعهم لا يتزحزحون!
من الطبيعي في مثل هذه الظروف أن ينتشر الفساد ويرتع، وما الأزمة السياسية والاقتصادية والاجتماعية وانحطاط الأخلاق والفوضى وانتشار المخدرات وتزوير إرادة الأمة، وعدم احترام أحكام القضاء، وسرقة أموال الدولة والانحرافات التي تترامى إلى سمعنا من جهات كنا نحسبها ذات منعة وحصانة... وغير ذلك، إلا دليل على ثمار شجرة الفساد التي ضربت بجذورها في الأرض، وبسق جذعها في الفضاء، وتمطت فروعها حتى غطت رؤوسنا وحجبت عنا الفرج من السماء. الحكومة ما فتئت تعلن عن عزمها التصدي للفساد، وما انفكت متوعدة المفسدين بسوء المعاقبة والمنقلب، ولكن يذهلنا ويحيرنا أن يواكب هذه الخزعبلات...
أسرع خطى الفساد واتساع دائرته وكأن الإعلان تحذير أو فترة سماح غير محدودة الأجل، لكي يوفق المفسدون أوضاعهم وينتهوا من خططهم في أقرب فرصة من دون المساس بحجم ما خُطط لإفساده.
لذلك قد يكون الخير في عدم إعلان الحكومة عن ذلك العزم طالما أن فيه استنفاراً للمفسدين وتحفيزاً لهم. ومما لا شك فيه أن التنمية والتخبط الإداري تسير في معدل يقل كثيراً عن معدلات النهب والسلب. وبدراسة جدوى مبدئية يمكن القول، بكل ثقة واعتدال، إن تجميد خطط التنمية لفترة والتفرغ للقضاء على الفساد وحماية ما لدينا وتحصيل ما نهب من ثروات أجدى وأكسب، فليست العبرة بإنتاج النفط وبيعه وحده وإنما أيضاً بالمحافظة عليه من الضياع واستنزاف الإيرادات الهائلة وإهدارها بمناقصات مشبوهة. فما جدوى أن ننتج، ثم نترك إنتاجنا نهباً للصوص قدامى أو جدد؟
هناك دول فقيرة أصلاً لم يصل فيها سوء الحال كما وصل عندنا، ومع ذلك شرعت عقوبات تتدرج في الشدة مع حجم الفساد لتصل إلى الإعدام. ونحن لدينا شرائعنا السماوية وتراثنا الديني اللذان حددا بوضوح معايير الاختيار لتولي المسؤولية والجزاءات الواجب توقيعها على من يخل بأمانتها. ولكن، للأسف، منذ تأسيس دولتنا الحديثة لم نجد «العين الحمراء» من حكومتنا التي تركت الفساد دهراً من الزمن من دون رقيب أو حسيب، وهذا يدعو إلى الدهشة والاستغراب على هذا السكوت المريب! بمعنى لماذا لا يفكر رئيس الوزراء في تعيين حكومة تكنوقراط جديدة ذات أمانة وسمعة فيها أصحاب قرار، بعيداً عن المحاصصة ولا تهادن أو تجامل وتضع أهم أولوياتها التنمية ومكافحة الفساد في القطاعات الحكومية وتكون مهمتها الكشف عن موطن الفساد، واستبعاد كل من تحوم حوله مجرد شبهة وإحالة المتورط إلى المحاكمة لينال الجزاء الذي يخيف من لم يكتشف أمرهم بعد.
يتساءل البسطاء عن الدور الرقابي لمجلس الأمة، فعلى مدى عقود عدة خلت لم نسمع أن مجلس الأمة في ما قبل قد سحب ثقة من زميل لهم أو ناقش أمراً من الأمور التي تدور في أذهان الناس وتجري على ألسنتهم. هؤلاء البسطاء لا ينفك عجبهم من أن القطاع الوحيد الذي يستحوذ على اهتمام الدولة هو قطاع كرة القدم فقط، فضلاً عن المزايدات والكلام المرسل المنمق من دون فعل ملموس!
المجتمع الدولي يضع قضية الفساد في مقدمة استراتيجياته واهتماماته، فلتكن السلطتان التشريعية والتنفيذية سباقتين إلى مكافحة هذا الداء الذي استشرى بشكل منقطع النظير، وعلينا أن نكافحه بما أوتينا وأن نبتره قبل فوات الأوان، وترجع إلينا ديرتنا كما كانت مميزة وريادية. آمين يا رب العالمين.
فيصل فالح السبيعي
محامٍ ومستشار جمعية الصحافيين القانوني