في الأول الابتدائي، وفي أول يوم دراسي لي في حياتي التعليمية، ساقتني الأقدار إلى أن أتجاور في مقعد الدراسة وعلى طاولة واحدة مع طفل اسمه علي، كان ذا بشرة خشنة، وجبهة عريضة، وشعر فوضوي، ووجه لاحت عليه بعض الحبوب الدهنية، وعيناه كانتا مختلفتين في نظراتهما! فاليمين كانت تتحرك في كل اتجاه بحركة غير إرادية، وعينه الشمال كانت أحياناً تنظر إلى الأعلى وكأن أحداً يلوّح لها وينادي عليها، وأحياناً كان علي يسدد نظرات عينه الشمال نحوي بتركيز وقوة وكأن عينه جمهور غفير.
وإن تكلم علي فكان يغمض كلتا عينيه في بداية حديثه وهو يرفع رأسه إلى أعلى ويزم شفتيه وينطق الكلمات بتأتأة.? ? زاملني علي في كل السنوات الدراسية الأربع للمرحلة الابتدائية، ولم يقترف في حق صداقتتا أي شيء جعلني أغضب منه، وكان دائماً يقسم لي في الفسحة المدرسية نصف خبزة الزعتر التي تقوم أمه بإعدادها له، حتى رأيت أمه في إحدى المرات وهي تنتظره وقت الخروج عند باب المدرسة، فأخبرتها ببراءة الطفل بأني أحب خبزة الزعتر تلك، فأصبحت تصنع في كل يوم خبزتين من الزعتر لي ولعلي.? وفي مدرسة المرحلة المتوسطة بحثت عن علي فلم أجده، وسألت عنه كل أصدقائي السابقين لكنهم لم يعثروا عليه للأسف. ورغم طول مرور الأيام والسنين لم أنسَ علي ولا خبزة الزعتر، حتى بعد أن كبرت وتوظفت وتزوجت ورزقني الله تعالى بالذرية، رغم أني نسيت الكثير من الوجوه والذكريات التي كانت في مرحلة طفولتي.
وفي يوم الثلاثاء 31/ 12/ 2019، كنت في مراجعة طبية في أحد المستشفيات، وبينما كنت أجلس منتظراً أرقام طابور صرف الأدوية إذ برجل جاء وجلس إلى جانبي، فنظر لي بعينين مختلفتين في نظراتهما، ثم زم شفتيه ورفع رأسه إلى أعلى، وقال بشيء من الصعوبة: السلام عليك ورحمة الله. فرددت عليه السلام، وصرفت عنه نظراتي، ثم وبلحظة سريعة عادت بي الأيام نحو سنوات الابتدائية، ففتحت فمي وعيني مدهوشاً وأنا أنظر نحو الرجل الذي بجانبي، فانتبه لي وأخذ هو الآخر يحدق بي متعجباً من نظراتي نحوه، فقلت له: أنت علي زعتر؟ فقال: ماذا؟! فقلت له: أنت علي محمد؟ فقال: نعم أنا علي محمد. فقلت له: الذي كنت تقسم لي خبزة الزعتر في المدرسة؟ فقال: أنت حسين الراوي؟! فقلت نعم أنا هو. فقمنا وتعانقنا عناقاً مرت من خلاله بيني وبينه ذكريات عشرات السنين والأيام والليالي.