جودة الحياة

القراءة... حياة من نوع آخر

No Image
تصغير
تكبير

القراءة عندي ليست هواية أو محض نشاط عقلي أو جهد ذهني أبذله لتبديد وقت الفراغ بمطالعة كتاب، أو مقال على موقع إلكتروني أو مجلة، فدوماً أجد نفسي كاتبة وقارئة أحس بأنس الكتب والعزلة الجميلة بصحبة كتاب جيد في الرواية أو القصة أو حتى في مجال تخصصي في علم النفس أو الاجتماع والتربية مثلاً، لا أدري كم من الوقت يمر وأنا أطالع كتاب ما، فالقراءة عندي كنزٌ ثمينٌ أستغني به عن باقي الكنوز، وهو الباب الذي يدخل به الفرد «أي فرد كان» على حقل المعارف فيختار أزكاها لينتفع بها، يتجول عبر الكتب التي يختارها ما بين ماضٍ عابق بالتجارب باحثاً عن إجابات حاضر يعجُ بالأسئلة والألغاز، مقبلاً على مستقبل مليء بالتقدّم والتحديات، فتتوسع بذلك مداركه ويتوهج عقله بما يختبره في بطون الكتب من معلومات تتطلب منه جهداً يستثمره في ربط، وتحليلٍ، وتدقيق ومقارنة.
 لست أزعم أنني علي اطلاع واسع بأحوال القراءة ومدي شغف الناس في منطقتنا العربية بالقراءة وزيارة المكتبات ومعارض الكتب، ولكنني أرى أن القراءة مهمة وعادة حميدة تعطي إحساساً بالتفوق والتطلع الكوني المرتبط بالشغف المعرفي، تقبع في درجة متدنية من سلم أولويات مجتمعاتنا الشرق أوسطية لاسيما بعد اتساع وتمدد السوشيال ميديا وشيوع نمط من المعارف السطحية والسريعة التي تتدفق يومياً علي شاشات الهواتف الذكية حاملة معلومات مبتسرة تقدم صوراً مشوهة عن الواقع أكثر من معرفة، أو إضافة حقيقية تكشف جانبًاً من إشكالات الواقع وتقدم طرحاً أو محاولة للإجابة عن أسئلته الماثلة.
ولسنا في معرض المقارنة التبسيطية بين عاداتنا في التعامل مع وسائل تلقي المعرفة عبر وسائطها التقليدية كالكتاب وعادات الغرب أو شعوب قارة آسيا في القراءة والاطلاع. من الدول التي أعشق زيارتها بين فترة وأخرى هي اليابان، فأذكر عندما زرتها للمرة الأولى في حياتي فقد أُسرت في مفاتن الحضارة اليابانية الفريدة، ووجدت الناس فيها لا يكفون عن القراءة، يقرؤون عند انتظار القطارات وفي عربات المترو، وفي أوقات استراحات العمل وأوقات الفراغ، ولا عجب فاليابان تتصدر قائمة الدول والشعوب الأكثر قراءة في العالم. ولا يأتي حب القراءة أو الإطلاع من فراغ فلابد من توفر معطيات اجتماعية وتربوية لتكوين جيل يعرف كيف يتعامل مع الكتاب والقراءة، وفي الحالة اليابانية التي شاهدتها عن كثب يُغرس حب الاطلاع والقراءة في الطلاب في مراحل مبكرة من التعليم الأساسي فيشب الطفل ويتدرج في مراحل التعليم، وقد أصبحت القراءة إحدى سمات شخصيته، ربما لهذا السبب بجانب معطيات أخرى تقدمت اليابان وصارت المثال العالمي في تحقيق أعلى معدلات التنمية ورفاهية الفرد وهناء عيشه.


أي دليل على أهمية القراءة في توسيع المدارك والعلم بأسرار الكون والحياة أكثر من قوله تعالى في القرآن الكريم
 (اقرأ باسم ربك الذي خلق)، وهذه الآية من سورة العلق التي نزلت علي نبينا محمد عليه أفضل الصلاة والسلام في مستهل بعثته الشريفة خير دليل على أهمية القراءة في حياة الأفراد والمجتمعات.
?والقراءة كفعل وأسلوب لفهم أفضل للحياة والعالم، هي أيضاً طريق إلى المعرفة والرُقي الحضاري والمادي، فقد قال أمير الشعراء أحمد شوقي: «بالعلم والمال يبني الناس ملكهم/ لم يُبن ملك على جهل وإقلال»، ولا تتوقف القراءة على الكتب والمواد العلميّة فحسب، إنّما تشمل القراءة المتنوعة في شتى العلوم والآداب والفنون والاجتماع والتاريخ وغيرها من علوم المعرفة.
وهي أفضل وسيلة لإغناءِ المفردات وإثراء الفضاء المعرفي وتوسيع الملكات والمقدرات الشخصية لدى القارئ، فعندما تقرأ كتاباً جيداً في موضوع معرفي أو كتاباً علمياً متخصصاً لن تعود كما أنت قبل قراءة الكتاب، لذلك عُرف هذا البيت من شعر أبو الطيب المتنبي كأكثر المقولات شهرة في عالم القراءة والمعرفة المتحصلة من بطون الكتب وهو: (خير جليس في الزمان كتاب).
 ربما تُصبح بفعل القراءة المنظمة المستمرة مع الوقت مرجعاً في تخصص أو حقل معرفي معين، وبفضلها قد تصبح أيضاً قادراً على الكتابة والتحدث بطلاقة واستخدام الجمل في مواضعها المناسبة، ومن خلاصة القول كما أسلفنا إن الكتاب الجيد في مضمونه لا يجلب الأنس والمتعة فحسب وإنما يساعد القارئ علي تبديد حالة الملل التي قد تنتابه حين يشرع في مطالعة كتاب مُعقد مكتوب بحبكة ولغة عالية، خصوصًا إن كانت قراءة مفيدة يقضي بها الفرد وقت فراغه بما هو مفيد، وفي هذه الحالة تُحدث القراءة أثراً غير محدود في تعزيز ثقة الشخص بنفسه لأنه يستطيع أن يتمكن من فهم الحياة عبر وجهات نظر مختلفة فيصبح قادراً على مجابهة تغيراتها بشكلٍ أفضل، لأنّ من يقرأ يمكنه ببساطة أن يأخذ خلاصة التجارب الموجودة لدى الآخرين من ذوي الرأي والحكمة، أو من الأشخاص الأكثر تأثيراً في مجتمعاتهم.
التجربة الأوروبية في القراءة والتنوير والشغف المعرفي ليست بالضرورة مرجعية لدي، ولكني أخذها كمثال للاستئناس والقياس والمقارنة مع حالتنا في الشرق الأوسط، فالقراءة في الغرب ربما تأخذ شكل المثال أو النموذج، فالناس يقرؤون باستمرار كمن يُعد نفسه لامتحان يحدد مستقبله الأكاديمي، كما كنا نفعل تماماً أيام الدراسة الجامعية.
إذاً كيف يمكن أن نأخذ العبرة والحكمة من تجارب المجتمعات المتقدمة والرائدة في الأخذ بأسباب التطور والرُقي الحضاري؟
ليس ذلك بالأمر السهل ولكن لا يعني ذلك أنه مستحيل ففي كل الأحوال يمكن للدولة تشجيع القراءة وإتاحة الكتاب والمطبوعات ذات المضامين المفيدة والمُعبرة عن ثقافتنا وهوية مجتمعنا، مع الانفتاح الواعي على التجارب الإنسانية في العالم لأنها إرث مُشترك، وينبغي على مؤسسات الدولة المعنية بالشأن الثقافي تشجيع الخطط التي تعزز مقدرة المجتمع على القراءة والاطلاع، لاسيما شريحة الأطفال والنشء ليكون لدينا جيل قادر على التعامل مع معطيات العصر ولغته، في زمان أصبح من السهولة بمكان الحصول على المعرفة والمعلومة بكبسة.

* مستشار جودة الحياة
Twitter: t_almutairi
Instagram: t_almutairii
 [email protected]

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي