محمد الوشيحي / آمـال / «المعلم»... قصة حقيقية

تصغير
تكبير
هو فلسطيني بحجم الفيل الهندي، ذو لحية خفيفة بعارضين تركهما ليرسما حدود وجهه المترامي الأطراف، شجاع ولا عنتر، كريم ولا حاتم، ذكي، كل ما فيه ذكي، من الدعامية للدعامية، قناص فرص ولا أباتشي، عمل من التراب ذهبا ناصع الصفار.
بدأ الحياة من الخطوة الأولى، من العوز، من مهنة تتناسب وحجمه، «عتال»، و«خذاها كعّابي» بحثا عن النجاح إلى أن وجده فعانقه وأخذه بالأحضان وذرف دموع التعب على كتفيه، وعض عليه بالنواجذ.
ولأنه ابن أوادم فقد تعامل مع النجاح تعامل عيال الأوادم. لا يظلم أحدا ولا يأكل حق أحد، ولا يتوقف ليناقشك «اين ذهبت الدولارات العشرة»، هو أكبر بكثير من التفاهات التي لو التفت إليها لما أسس هذه الإمبراطورية المنتشرة على طول الخارطة، بدءا من كندا وليس انتهاء بالكويت.

لكن «الحلو ما بيكملش»، فهو رجل أسرار من الطراز الاستخباراتي، يتعامل بالأسرار ويكتمها، وهو مركزي معتق، إمبراطوريته المالية كلها هو محورها ومركزها، هو وحده. إن دخل غرفة النوم فالقيادة في غرفة النوم، وإن دخل بيت الراحة فالقرار في بيت الراحة. وهنا صفقت المصائب فرحا وهزت قدّها الميّاس طربا، وكمنت له تحت السرير وفي المكتب وفي كل مكان يزوره.
لم يُرزق بولد ذكر، جوّه المنزلي أنثوي نقي، زوجة وثلاث يمامات مراهقات يتبارين في الدلع والطيبة وعدم الاكتراث بالأموال. «بابا هالة شو بتحبي أشتري لك هدية ميلادك؟ سيارة لومبرغيني أو بورش؟»، «وانتي يا قمر وين بدّك نحتفل بسلامتك، في مزرعتنا في فرنسا، أو بتحبي تعملي مثل السنة الماضية، تأخذي صاحباتك وتروحوا لمنتجعنا في تركيا؟»... لا أحاديث في المنزل سوى من هذا النوع، مع البنات و«الغالية» والدتهن.
بيوت لأسر فلسطينية في الشتات قامت على كتفيه الضخمتين، هو بنفسه من يتصل ويسأل عن نواقصها: «طمنيني أم جهاد شو عمل ابنك في امتحانات السنة هاي؟»، وتطمئنه أم جهاد، فيبتعث ابنها على حسابه... «شو أخبار صحتك، عم أبو خالد، الدواء اللي بعثته لك منيح؟»، فيشتكي له الشيخ الكهل أبو خالد من تردي صحته، فيرسله لطبيب آخر في المنطقة بعدما يبلغ الطبيب بتحمله لمصاريف العلاج.
هو مجموعة من الاصالة والمبادئ قررت الإقامة في قلب وعقل رجل واحد. أحبه رجال الأعمال العرب والأجانب ووثقوا به، فوضع هو ثقته في «فايد» ابن «الحاج أبو فايد»، قريبه المسكين سابقا، المبحبح حاليا.
فايد هو من يسيّر التفاصيل الصغيرة، التعاقد مع كراجات لإصلاح أعطال السيارات، منح الأجازات للموظفين، وبقية الفواصل والنقط. بينما يشرف «المعلم» بنفسه على كل ما عدا ذلك. وقته مقسم بين الشغل والشغل والشغل والأسرة الصغيرة. بناته، اثنتان منهن في الجامعة والثالثة في الثانوية، يتقاذفن الطيبة والأمان بينهن على وقع ضحكات الأم «الغالية».
لا شيء يعكر لون الحياة الوردي، سوى آلام خفيفة في قلب «المعلم»، لا تكلفه أكثر من أن يضع يده على مكان الألم ويعض بشدة على أسنانه ويخفض رأسه ببطء، ثم يطلق زفيرا قويا لو أطلقه على عربة قطار لتحركت بركابها.
«آلو، هاه يا الغالية شو أخبار الجو في لندن هالصيفية؟ وشو أخبار القمرات؟»، «كل شيء منيح يا أبو هالة، أنت شو أخبار قلبك، طمني، وعشان خاطري مر على طبيب»، «ما تعتلي همي يا غالية، أنا صحتي بومب، ما بتشوفي الملاكم تايسون هسّع مختفي عن الأضواء؟، لأنو خايف من حبيبك» يقول ذلك ثم يطلق ضحكة ضخمة بضخامته تهز أركان المكتب. وما أن يضع سماعة الهاتف حتى يضع يده على قلبه ويضغط على أسنانه بقسوة لثوان ويخفض رأسه ببطء قبل أن يطلق زفرة تدفع عربة قطار.
ولأنه «ما بين غمضة عين وانتباهتها، يغيّر الله من حال إلى حال»، مات المعلم في مكتبه، فبكت الأرجاء، وشاخت البنات الثلاث في لحظة، واحتضنت «الغالية» الصمت والدموع والوجوم والشرود، واعتزلت الناس كلهم، حتى بناتها تركتهن يتقاذفن الطيبة والسذاجة بينهن، وراحت تمشي وحيدة في مسيرة طويلة من النحيب الذي يبكي الحجر، فالأمر أكبر من طاقتها وطاقة القمرات الثلاث اللواتي رحن يتنافسن في البكاء... شحبت الوجوه النضرة وساد السواد بعدما أخذ المعلم الفرح كله معه وراح به إلى قبره.
وهنا جاء دور فايد، ابن العم الذي تسلّم الخيل والرجال، لا أحد يظهر سواه على الشاشة، فالأم المكلومة لم تكن اثناء وجود المعلم «تعتل هما»، وحتى لو «عتلت»، لن تعرف كيف تعتل. أما القمرات الثلاث فيفتح الله.
وفايد غبي وإن كان يرتدي ثوب الذكاء ليوهم الآخرين بأنه «عاجنها وخابزها»، لكنه مكشوف أمام كبار الموظفين وصغارهم.
مضت الآن سنوات ثلاث على موت المعلم، انقلبت فيها الدنيا وأظهرت أنيابها في وجه الأسرة الصغيرة، وأرهق الدين كاهل الغالية فباعت المزارع والبيوت، وبدأ عملاء المعلم بالانصراف عن التعامل مع فايد، فلا كلمته ككلمة المعلم، ولا طريقته في التعامل كطريقة المعلم.
وتحت إلحاح من تبقى من أصحاب المعلم، طردت الغالية فايد وبدأت تعتل الهم، وها هي الآن وقمراتها يتخبطن في المكاتب، يسددن رواتب هؤلاء ويجتمعن مع أولئك، لإعادة الأمور إلى نصابها وتلميع الصورة الجميلة التي غطتها الأتربة، بعدما تعاهدن على التوقف عن البكاء بطلب من الغالية «عشان يرضى أبوكن في قبره». وبالفعل نفذن العهد، ولم تعد أي منهن تبكي سوى عندما تختلي بنفسها، أو هي لا تبكي حينها، بل تنتحب.
محمد الوشيحي
alwashi7i@yahoo.com
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي