مثقفون بلا حدود

«ياسمينة»... من أفلام الثورة الجزائرية (2 من 3)

No Image
تصغير
تكبير

السؤال الثاني الذي نطرحه على المخرجين الجزائريين الرائعين جمال شندرلي ومحمد الخضر حامينة: لماذا طفلة وليس طفلاً؟ في كل الأحول الطفلة دائماً وأبداً تنشد الأمن والأمان، والدفء والسكينة والاستقرار، الطفلة منذ الصغر تحمل قدراً من الأمومة والتحنان، إنها غريزة الرب المنان، وضعها في هذه المخلوقة الرقيقة (ألا رفقاً بالقوارير) ويقول المصطفى عليه أفضل الصلاة والسلام: (أوصيكم بالنساء خيراً). الطفلة هي رمز الأم بمعناها الحقيقي (وفاء، عطاء لا محدود، إخلاص ممدود، صبر، أناة، وهن...)، وهي الدولة والعروبة والأمة الإسلامية بمعناها المجازي. الطفلة حاضنة ولادة، الطفلة رقيقة شفافة، الطفلة لينة هينة، الطفلة امتداد الماضي، وقلب الحاضر، وإشراقة المستقبل، جرحها وخدشها ومزق صورتها البريئة، ذلك المارد المستكبر الاستعمار اللعين.
اعتمد المخرجان شندرلي وحامينة «السرد» على لسان الطفلة «ياسمينة» من بداية الفيلم إلى نهايته باللغة الإنكليزية، وهما يعلمان جد العلم أن اللغة الإنكليزية هي اللغة الحية الأولى لذا فقد نجحا في إيصال رسالتهما للعالم؛ ولعل هذه الطريقة هي من أكثر الطرق تأثيرا في المشاهد حينما يسمعه من طفلة وهي تحكي معاناتها بعد أن قام المستعمر بقصف قريتها وتسبب في تشريدها، حتى قطعت المسافات الطوال، لتذهب إلى أقاربها في قمم الجبال على المناطق الحدودية؛ ليسجلا بذلك رمزية الإصرار والعناد والتشبث بالأرض من طفلة صغيرة تتطلع إلى مستقبل آمن لبلادها الجزائر، ولا ننسى رمزية الصعود للجبل ومالها من عزة وأنفة وكبرياء، ومما زاد في تأثير السرد، اصطحاب المناظر والمشاهد الحيـّة التي تم تصويرها لأفعال المستعمر الشنيعة من قصف وتهديم وتخريب.
لقد تحدثت الطفلة «ياسمينة الجزائرية» بصوت أجش أعياه البكاء وأرهقه الألم، وبعبارات مخنوقة؛ فهي تطرح الأسئلة تارة، وتارة تطلب حلاً، إنها تسأل لماذا هذه الحرب الشعواء؟! لماذا هذا الغزو المدمر؟! لماذا هذا الاستعمار الدنيء، ماذا اغترفنا من ذنب حتى تهدم بيوتنا وتستباح حرماتنا ويتم تشريدنا وتمزق أواصرنا وتفرّق لـُحمتنا؟! أسئلة بريئة من طفلة أرادت أن تعرف حقيقة الأمر.
حاولت أن تجد حلاً لها ولأسرتها، أين ستعيش؟ وكيف سوف تبدأ؟ هل من حل لمن يكفلهم أكلاً وشرباً ومأوى، هل من أحد قادر على أن يعيد حياتها سيرتها الأولى؟! وتعود بها الذكرى فتقول بلسان حالها مستذكرة كيف قام المستعمر بقصف بيتها الصغير، وبعثر طفولتها الجميلة، وقتل والدها الحنون، وكيف تسبب بتدمير حياتها الآمنة البسيطة والقضاء على أحلامها ووأد طموحاتها، كما صورت لنا معاناة الرحلة إلى الهضاب مع والدتها وأخيها، بثياب رثة مهلهلة وقد حفيت أقدامهم، متجشمين وعورة الطريق في الصعود إلى الهضاب. بحثاً عن أقاربها للإيواء والحماية من بطش المستعمر. ولم يغفل المخرجان التصوير الدقيق حينما تنزلق القدم من صخرة كبيرة إلى صخرة صغيرة فتدمي الصخرة الكبيرة أقدامهم بالجرح والخدش؛ ولعل هذا الانزلاق الحقيقي يقابله انزلاق مجازي وصورة رمزية بهفوات المستعمر التي سيدفع ثمنها غاليا عاجلاً أم آجلاً، هذه الانزلاقات للمستعمر هي في الحقيقة أخطاء جسام ارتكبها المستعمر حينما فكر تفكيراً خبيثاً وقرر في ليل مظلم بهيم أن يغزو الجزائر الحرة، إن هذه الجراح وهذه الخدوش وهذه الدماء تعكس الصورة الدموية السادية التي تستعمر قلب المستعمر.
نجح المخرجان أيّما نجاح في تداخل الصور؛ فصورة تجسد لك معاناة رحلة هذه الأسرة المشردة ولسان حالها يتكلم في العراء، تأتي بعدها مباشرة صورة أخرى من تصوير وتسجيل حي (من قلب الحدث) لاحتجاجات ومظاهرات وقصف مدفعي وغارات لطيران حربي على المدن والمقرات الرسمية، قتلى في كل مكان، دخان كثيف، أجساد ممزقة، أشلاء تتطاير، أغراض مبعثرة؛ لتأتي صورة ثالثة بعدها وقد وصلت الأسرة على رأس تلة، وبدأت الأم والابنة «ياسمينة» والابن ينظرون إلى الشمس.

* كاتب وباحث كويتي
[email protected]

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي