«قانون اللعب المالي النظيف» ... أن تصل متأخراً خيرٌ من ألّا تصل أبداً
تخوض أندية كرة القدم، الأوروبية منها على وجه الخصوص، حرباً موسمية كبرى على «جبهات» سوق الانتقالات الصيفية، إلى حدٍّ يدفع بنا إلى تصوّر مشهد جديد على ساحة «الرياضة الأكثر شعبية» يتمثل في تحوّل المشجعين من مدرجات الملاعب إلى مدرجات «بورصة النجوم»، طالبين، وأحياناً ملحّين على ناديهم بضم هذا النجم أو ذاك.
إنها «الفوضى المنظمة» في أوروبا حيث تحوّلت ملايين الدولارات إلى لغة وحيدة في صراع التكالب على اللاعبين، وفي ظل العمل بـ»قانون اللعب المالي النظيف» الذي تم تقديم مشروع فيه من قبل اللجنة التنفيذية في الاتحاد الأوروبي للعبة، بقيادة الرئيس السابق الفرنسي ميشال بلاتيني، العام 2009، قبل أن يدخل حير التنفيذ في الموسم 2011-2012.
لا شك في أن أسعار اللاعبين وقدرة الأندية على الحصول على أبرزهم، فرضا نوعاً من «الطبقات» على غرار طبقات المجتمع التي فيها الميسور، المتوسط والفقير.
ولعل انتقال البرازيلي نيمار دا سيلفا من برشلونة الإسباني إلى باريس سان جرمان الفرنسي في 2017 يشكل مثالاً صارخاً على التمادي الحاصل في السوق، علماً أن هذه الصفقة القياسية قابلة لـ«التحطيم» في أي لحظة من قبل نجوم آخرين أمثال الفرنسي كيليان مبابي، المصري محمد صلاح، وغيرهما.
معاقبة الأندية
فكرة «اللعب المالي النظيف» لم تنطلق من مبدأ معاقبة الأندية بل حمايتها من الديون التي قد تقع تحت وطأتها وتجعلها، ربما، مهددة بالإفلاس، الأمر الذي يؤدي، بالتالي، إلى دمار اللعبة، شيئاً فشيئاً.
ثمة هدف آخر يتمثل في رغبة القيّمين على الاتحاد الأوروبي في الحدّ من سطوة الملّاك، أصحاب الملايين، على الأندية، والذين حوّلوا كرة القدم، إلى ما يشبه المنصة لتحدّي بعضهم البعض بنفوذ السلطة والمال.
صحيح أن من شأن هذا الصراع المفتوح على النجوم أن يفرض صراعاً محموماً ومثيراً في الملعب، لكن السعي الذي يقوده رئيس الاتحاد الأوروبي للعبة (يويفا)، السلوفيني ألكسندر تشيفيرين، يصب في خانة إبقاء كرة القدم في صلب الرياضة، وتحريرها، وإن نسبياً، من قيود الـbusiness.
التصويب جاء، خصوصاً، على باريس سان جرمان الفرنسي بُعيد شرائه من قبل ملّاك قطريين، حيث دأب منذ تلك اللحظة على إبرام عقود يسيل لها اللّعاب، سعياً منه لتزعّم أوروبا من خلال التتويج بدوري الأبطال، بيد أن أقصى مرحلة بلغها الفريق، في البطولة الأهم، كانت ربع النهائي.
وفي الآونة الأخيرة، أُنزلت عقوبة بميلان الإيطالي من قبل المحكمة الرياضية الدولية تمثلت في حرمانه من المشاركة في الدوري الأوروبي (يوروبا ليغ) للموسم 2019-2020 لخرقه الالتزامات التي تنصّ عليها قواعد اللعب المالي النظيف والخاصة بالوصول إلى نقطة التعادل بين الإيرادات والمصروفات وذلك خلال الأعوام 2015 و2016 و2017 وفترات المراقبة التي خضع لها في 2016 و2017 و2018.
الحدّ من «الجنون»
هذه شواهد تؤشر إلى أن الاتحاد الأوروبي يهدف إلى الحد من «الجنون» في السوق من خلال فرض نوع من التوازن بين ما تصرفه الأندية على ضم اللاعبين وما تحصّله من بيع غيرهم، وتحاشي وقوع ميزانياتها في أي نوعٍ من أنواع العجز.
أيّ نادٍ مخالف تزيد مصروفاته عن إيرادته، يكون عرضةً لعقوبات تبدأ تدرّجاً بالإنذار، التوبيخ، الغرامة، حسم نقاط من رصيده في المسابقات المحلية، حجب إيرادات المشاركة في المسابقات الأوروبية، حظر تسجيل اللاعبين الجدد في مسابقات «يويفا» (المنع من دخول سوق الانتقالات)، تحديد عدد اللاعبين المسجلين في المسابقات الأوروبية (حدث ذلك مع باريس سان جرمان ومانشستر سيتي الإنكليزي)، الحرمان من المشاركة في البطولات القارية في الحاضر أو المستقبل القريب (حدث مع ميلان)، وصولاً إلى تجريد النادي من أحد ألقابه.
ولا شك في أن الاتحاد الأوروبي، الذي يعتبر بين أقوى المنظمات الرياضية، استشعر بالخطر قبل سنوات، ومن ثم قام بالخطوة الأولى.
فقد اكتشف «القطاع المالي» فيه أن نصف الأندية المنضوية تحت لوائه والبالغ عددها 655 تكبدت خسائر في 2008، وأن 20 في المئة منها يعيش وضعاً مالياً خطيراً.
وفي مطلع 2012، قُدِّرت ديون الأندية بحوالي 1.6 مليار يورو، الأمر الذي دقّ ناقوس الخطر من إمكان انهيار تام مع واقع مرير تمثل في أن ثلاثة أرباع هذه الأندية غير قادر على تحقيق التوازن المطلوب.
مما لا شك فيه أن «قانون اللعب المالي النظيف» أجبر الأندية على العمل في أكثر من اتجاه، بغية إيجاد موارد استثمار وتحقيق مكاسب مالية.
نقطة إيجابية
تمثلت النقطة الأكثر إيجابية من هذا «القانون» في دفع الأندية على الاهتمام بقواعد الناشئين وبأكاديمياتها بغية «انتاج» لاعبين، وتحاشي الذهاب، بصفة دائمة، إلى السوق المتعاظمة أسعاره بحثاً عن الشراء، وهو الأمر الذي يؤدي، في نهاية المطاف، إلى إرهاق ميزانياتها.
يبرز بين بنود «قانون اللعب المالي النظيف» أنه لا يجوز لأي نادٍ أن يكون مديناً لنادٍ آخر.
وتمت هذه العملية عبر قيام الاتحاد الأوروبي بمراقبة «النشاط المالي» للأندية في الموسمين الأولين ابتداء من 2011-2012، على أن يجري تخفيض العجز خلاله كي لا تزيد الخسائر عن 45 مليون يورو، وعن 30 مليوناً في 2012-2013، وعن 15 مليوناً في 2013-2014، ليصل في الموسم 2014-2015 إلى نقطة الصفر.
وأجاز «القانون» بأن يصل الحد الأقصى المسموح به من الخسائر في الفترة من 2011 حتى 2014 إلى 50 مليوناً.
ليس هذا فحسب، فقد كان «يويفا» حريصاً على أن تستفيد الأندية من أموال ملّاكها ولكن لفترة محددة، فقد منح هؤلاء فرصة لتعديل أوضاع أنديتهم عبر السماح لهم بتسديد الديون في الفترة من 2011 إلى 2014.
كما أجازت لهم ضخ 45 مليون يورو في الموسمين 2013-2014 و2014-2015، على أن يتم تقليص المبلغ إلى 30 مليوناً في المواسم 2015-2016 و2016-2017 و2017-2018.
إجراءات تأديبية
بدأ توقيع العقوبات بحق المخالفين في الموسم 2014-2015 لكن الاتحاد الأوروبي دأب، دائماً، على التأكيد بأنه يعمل على مساعدة الأندية المخالفة أو تلك التي تعاني مادياً، إذ لا يتخذ إجراءات تأديبية فورية، بل يعمد إلى وضع خطة محكمة تكفل للنادي الخروج من الأزمة والتحرر من الديون خلال فترة محددة.
وعلى الخط نفسه، لم يتوانَ «يويفا» يوماً في إظهار «العين الحمراء» لكل مخالف، مهما علا شأنه. ففي منتصف 2014، أعلن عن إنزال عقوبات بحق 9 أندية خالفت «القانون»، لكن مع اعتماد تسوية بينها وبينه.
وبناءً عليه، جرى تغريم كل من مانشستر سيتي، الذي تعود ملكيته إلى جهات إماراتية، وباريس سان جرمان، 60 مليون يورو، فضلاً عن حجب 40 مليوناً من إيرادات المشاركة في البطولات الأوروبية، كما جرى تخفيض عدد اللاعبين إلى 21 في تشكيلة كل منهما، مع إجبارهما على تحديد قيمة الرواتب لفترة عامين، وتحديد قيمة الصفقات المبرمة.
إنترميلان الإيطالي لم يسلم كذلك، ففي مايو 2015، أوقع «يويفا» عليه عقوبةً لمخالفته «القانون»، فغرّمه 20 مليون يورو، 14 منها من إيرادات المشاركة القارية، وقلّص قائمته من 25 إلى 21 لاعباً.
وفي يونيو 2018، أعلن الاتحاد الاوروبي إيقاف ميلان عن المشاركة في المسابقات القارية لمدة موسم، لخرقه قواعد «اللعب المالي النظيف».
لا شك في أن هذا «القانون» بدّل كثيراً من معالم الخارطة الكروية الأوروبية، وهذّبها وضبطها، لكن اللافت أنه صدر بعد سنوات من أمجاد حققتها أندية عدة... بالدّين.
ويبقى سؤال: ماذا لو جرى تطبيق هذا «القانون»... بأثر رجعي؟