جودة الحياة

الإيجابية بين الوهم والحقيقة

No Image
تصغير
تكبير

ينتشر للأسف بين الحين والآخر على مختلف منصات مواقع التواصل الاجتماعي الانتقادات السلبية، والتي تصل أحياناً إلى حد الاستهزاء والسخرية، بسبب الاعتقاد الخاطئ بأن كل من يتحدث عن الإيجابية وأهميتها في حياتنا هو يبيع الوهم للناس، لدرجة أن البعض وصفهم بالكذابين والدجالين، وهذا ما أزعجني حقيقةً.
صحيح بأن ليس كل من تحدث أو كتب عن الإيجابية والتفكير الإيجابي والسعادة، هو فعلاً يعنيها ويطبقها في حياته، وبالتأكيد أن هناك فئة يكتبون ويقولون ما لا يفعلون، كما أتفق تماماً بأن ليس كل من تداول وتناول مفهوم الإيجابية هو مختص في هذا المجال، رغم أن هذا لا يمنع أبداً أصحاب التجارب الحقيقية الناجحة في الحياة أن تتحدث عن مفهوم الايجابية والتفكير الايجابي وتأثيره على التغيير الحقيقي في حياتهم، وهذا باعتقادي أصدق وأكثر تأثيراً على المتلقي. فحقيقة الإيجابية هي تلك التي ولدت من رحم المعاناة.
ولكن ماذا يعني أن تكون ايجابيا؟ أن تملك التأثير الفعال على تفاصيل حياتك وألا تتركها نهباً للظروف التي يمكن أن تشل قدرتنا على التفكير وعلى العمل وعلى الابتكار. التفكير الإيجابي هو بداية الطريق لحياة أفضل بمعنى أخذ زمام المبادرة إلى الحركة والعطاء والعمل بالاعتماد بعد الله تعالى على النفس مع حسن الأداء واستكمال الجهد في العمل، وهو القدرة على التفاعل الجيد مع الحياة ومع الآخرين. إذاً فالإيجابية والفعل الإيجابي مرتبط بالفاعلية والتحرك بقصد إحداث فرق جوهري في الواقع. القرآن الكريم يخاطب الإنسان بمقتضى التكليف القائم على العقل ويحثه على الفاعلية والإيجابية، حتى يتمكن من الإمساك بآليات التغيير فيقول تعالى في كتابه الحكيم (لا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم)، إذ إن الإيجابية هي كل عمل يقربنا إلى أهدافنا في الحياة بالإصرار على تذليل عقباتها ومواجهة تحدياتها بحكمة وبصيرة وتقودنا إلى طاعة الله مبادرين وإيجابيين غير متواكلين ولا متقاعسين .


فليس هناك ثمة طريقة ووصفة جاهزة أو سيناريو محدد لجلب السعادة إلى مسارات حياتنا في الواقع، فالكل يعمل لأجل أن يحيا سعيدا هانئاً مطمئناً دون قلق وتوجس من المستقبل، لكن طاقة الحب والأمل والثقة في حياة أفضل، صحية، آمنة وطويلة تستدعينا إلى أن نكون إيجابيين في صنع أحداث حياتنا على الطريقة التي نُود أن تكون عليها.
تهتم العلوم الاجتماعية لا سيما في الغرب بتمكين الأفراد من العيش ضمن شروط ومعايير حياتية أفضل كعلم النفس الإيجابي الذي يهتم في الأساس بالدراسة العلمية لما يحقق السعادة للناس. ويسعى إلى تعزيز القدرات الشخصية المتعددة، كالصمود والصلابة النفسية والتفكير الإيجابي وتتجه كثير من المراكز المتخصصة في المنطقة العربية لتنمية القدرات والتنمية البشرية إلى عمليات تدريب مستمرة للأفراد على مواجهة الضغوط النفسية التي قد يتعرضون لها، والتخلص من القلق والاحتراق النفسي، وإلى تحسين الرضا عن الحياة وجودتها، وإلى دراسة الظروف التي تسهم في الوصول إلى أعلى أداء وظيفي للعاملين في المؤسسات والشركات الكبرى .
فضلاً عن ذلك فإن علم النفس الإيجابي في اهتمامه بالمجتمع يسعى دوماً إلى تنمية الفضائل وتفعيل دور المؤسسات المدنية التي تعمل على تحسين الواقع، وتنمية الشعور بالمسؤولية لدى الأفراد وتكريس قيم الإيثار والتسامح والعمل الخلاق. وفي الوقت الراهن أصبح واضحاً تركيز الدراسات النفسية على مكامن القوة في نفس الإنسان كالسعادة والطمأنينة والأمل والاستقرار النفسي والتقدير الاجتماعي والقناعة، بهدف التغلب على الضغوط التي تؤدي بالإنسان إلى اضطراب بالصحة النفسية، خصوصاً أن العالم يشهد تطوراً غير مسبوق في التكنولوجيا الرقمية وشيوع نمط الحياة الفردية والعزلة وما يترتب عليها الكثير من الأمراض العصرية، وربما أكثرها شيوعاً الاضطرابات النفسية، القلق، الاكتئاب واليأس وعدم تقدير الذات. بيد أن الجانب المهم لعلم النفس الإيجابي يهدف بالأساس إلى تقوية مكامن القوة في النفس أي أنه يؤدي دور وقائي يعزز مقدرة الفرد على العيش بحالة جيدة .
إذاً الايجابية والتفكير البناء في مواجهة الواقع ومفاجأته غير السارة أحياناً صارت مسار دراسة علم النفس الإيجابي الذي يسعى إلى معالجة الضعف، ويغذي مواضع القوة لدى الفرد، ويعمل على بناء السِّمات الإيجابية التي تساعد الأفراد والمجتمعات ليس على التحمل والبقاء فقط، بل أيضاً على الازدهار، كما أن استخدام إستراتيجيات علم النفس الإيجابي تؤدي إلى نقل الشخص بعيداً عن التركيز ضيق الأفق بل على معايشة المواقف السلبية والأمراض النفسية، إلى منهج جديد هو التفكير خارج الصندوق وتنمية السمات الإيجابية والفضيلة والقوى الإيجابية على مدى الحياة، والاستفادة منها في الصحة والعلاقات والعمل .
بأيدينا إذاً يمكن أن نختار التفاؤل والإيجابية أسلوباً للحياة والاستمتاع بطاقتها الخلاقة، فهي منحة عظيمة من الرب بدل أن نبدد حياتنا في اجترار الماضي والتجارب السلبية التي تُفرض علينا جراء معايشة الواقع. التفكير إذاً هو المصدر الأساسي للإيجابية، فهو يساعد على زيادة الثقة بالنفس، وهو من العوامل التي تُؤدِّي إلى النجاح بشرط أن نترك الماضي كماضٍ ونتخذه مصدراً للخبرة ومعيناً على تلافي العثرات كي لا تكون نظرتنا سلبية للمستقبل. فهل سمعتم بشخص ربح سباقاً وهو ينظر للخلف؟! ثمة تعريفات عدة للتفكير الإيجابي؛ فقد عُرف لدى البعض بأنّه استخدام الشخص لعقله الباطن في محاولة للوصول إلى آماله وأحلامه التي يطمح إليها، وعَرَّفه آخرون بأنَّه مصدر القوة لدى الشخص والذي من خلاله يستطيع أن يجد الحلول المناسبة لمشكلاته عن طريق التحكُّم بأفكاره، إذاً يمكننا أن نقول استنتاجا بأنّ تفكير الشخص بطريقة إيجابيّة يُؤدّي إلى وصوله إلى نتائج إيجابيّة، غير أنّ التفكير الإيجابيّ لا يعني بالضرورة ألّا يحمل الشخص هماً وألّا يتعرض إلى الإحباط والانكسار وألّا يمرَّ ببعض اللحظات والمشاعر السلبية، ولكن يعني أن يبتعد عن لوم ذاته والتحرّك الذكي لحل المشكلات التي تواجهه والتفكير بأفضل الحلول الايجابية تعني أنه استطاع أن يتغلب على كل تلك الصعاب، ولم تستطع الحياة أن تكسره، ولم تقدر على هزيمته الأيام أو تُضعف من قوة إرادته، بل أعطته القوة الكافية ليحارب كل تلك الظروف.
فكيف لك أن تكون إيجابياً، متفائلاً مقبلاً على الحياة كشأن الأسوياء من البشر؟ نظرتنا للأمور والتحديات الحياتية، يمكن أن تقلب المعادلة وتضعنا على المسار الصحيح للتفاعل الايجابي مع الحياة والناس والمواقف التي تُفرض علينا، فإذا كانت أفكار الشخص التي تتعلَّق بحياته سلبية فإن نظرته للأمور بالتأكيد ستكون مُتشائمة، حيث يصبح عندها غير راضٍ عن حياته، أمّا إذا استبدلنا هذه الأفكار بأخرى إيجابية فإنّ نظرة الفرد لنفسه ولحياته سوف تتغيّر ويصبح من الأشخاص المتفائلين الذين يعتزّون بأنفسهم وينعكس هذا التفاؤل بالضرورة على شخصيته وحياته ونجاحاته.
وكما قلت في البداية ليست هناك ثمة وصفة مثالية جاهزة تبدأ بخطوات محسوبة لتحقيق النجاح والسعادة في الحياة، لكن لا تنسى أن تنظر كل صباح للأمور بإيجابية في حياتك، ولا تنسى أن تشجع نفسك باستمرار وتحثها كل صباح على أنك قادر على النجاح، وعلى اجتياز الظروف والمشكلات التي قد تُواجِهها خلال اليوم.
استمتع بوقتك وبعملك ولا تترد من أن تفخر بانجازات حياتك على الأصعدة كافة، وتطلع إلى الحياة وإلى المستقبل بأمل وتفاؤل، قلل ملازمة المتزمتين والمتشائمين وكن ايجابياً واستمتع بما وهبك الله من نعم الحياة.
عندها فقط ستدرك معنى الايجابية وسر قوتها على التغير الايجابي في حياتنا.
* مستشار جودة الحياة
Twitter : t_almutairi
Instagram: t_almutairii
[email protected]

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي