لغة «الواسطة»... لغير الناطقين بها!

تصغير
تكبير

عندما تُغيَّب القيمُ والمبادئ، ويصبح الممنوع مباحاً، وتتحكم لغة المصالح وسلطة القوي لتشكل سداً مانعاً تنزوي خلفه الكفاءاتُ؛ فإننا بلا شك أمام ظاهرة مقيتة، وآفة تهدد مجتمعنا، أمام ظاهرة استخدام النفوذ في تحقيق المنفعة الخاصة على حساب القانون، إننا أمام ما يعرف بالواسطة أو المحسوبية.
وإذا كانت هناك مشكلة حقيقية تضعف الحس الفردي والاجتماعي بأهمية «المواطنة»، وتهدد سلامة المجتمع وتطوره فهي الواسطة، تلك الآفة التي هي مجمع الشرور التي يمكن أن تصيب الأوطان؛ لأنها تُمكِّن من لا يستحق على حساب مصلحة الوطن والجماعة.
لقد ظلت هذه المشكلة هاجساً يؤرق المهمومين أوطانهم، وقد قرأت مقالاً للخبير الاقتصادي حامد السيف، كتبه قبل ست سنوات، بعنوان «متى يأخذ أصحاب الاختصاص دورهم؟!»، ختمه بالقول: «المطلوب اليوم هو إعطاء أصحاب الاختصاص حقهم في أخذ دورهم في التنمية»، ومنذ ذلك الحين، والحال من سيئ إلى أسوأ، والتعيينات «البراشوتية» تهبط بلا حسيب ولا رقيب، وبلا مراعاة لمن جَدّوا واجتهدوا ليتبوأوا صدارة المشهد، ولكن خاب مسعاهم وتحطمت آمالهم أمام غول الواسطة الذي أصبح يبتلع كل القيم النبيلة، ما انعكس سلباً على اقتصادنا ومستقبلنا.


وحين ناقش مجلس الأمة «قضايا التوظيف» خلص لتشكيل لجنة تنظر «قضايا التوظيف»، لكنه لم يضع لها ضوابط عمل أو صلاحيات! ومن المفارقات أن يكون أعضاء المجلس هم «الجاني والحكم في وقت واحد»!؛ إذ إن من هؤلاء الأعضاء من يتوسطون لغير المستحقين ويقدمونهم لمواقع المسؤولية على حساب المستحقين، فكيف يكونون السبب والحل في وقت واحد؟!
حين يوسد الأمر لغير أهله، ويغيب مبدأ «تكافؤ الفرص»، يستشري الفساد، وربما من أهم أسباب الفساد إسناد التعيينات لهيئات مستقلة بعيداً عن ديوان الخدمة المدنية، لذلك أصبحنا نرى أن كلمة «هيئة مستقلة»، تعني في قاموس الواسطة «هيكلاً جديداً للتعيين البراشوتي، ومنفذاً للكوادر المالية، وتعيين الخريجين الجدد وفق الترضيات، والمحسوبيات، ووفق إعلانات توظيفية مفصلة»؛ لذلك لم أعد أتفاءل بأي هيئة «مستقلة جديدة» في هذه الأجواء لأنها وسيلة للهروب من قيود الرقابة الإدارية في التعيين والترقية.
لقد أصبح دفن الرؤوس في الرمال حاضراً خلال مناقشة البرلمان قضايا التوظيف، فتارة يلقي النواب بالمسؤولية على مخرجات التعليم، وتارة أخرى على التوزيع السيئ للقوى العاملة، وتارة ثالثة على عدم وجود تأهيل أو دورات تدريبية جيدة لإعداد الموظفين الجدد لمهام عملهم، ولم يتطرقوا قط إلى «الواسطات» التي معظمهم جزء منها... بل إن نقاشاتهم خلت من أي اقتراحات - خارج الصندوق - لحل هذه القضايا. وما تشكيل «لجنة» من دون صلاحيات أو ضوابط عمل إلا دليل على أن هناك مستفيداً من عدم حل هذه القضية حلا جذرياً.
إن هناك مؤشرات هيكلية تزيد من تفشي الواسطة وتَمكُنها، وأقصد تلك القوانين والقرارات الوزارية التي تطلق يد الوزراء في التعيين، كتلك التي تشترط تعيين «ذوي الخبرة والكفاءة»، من دون توصيف محدد، فتجد وزيراً يعين من يدعم موقفه أمام النواب، ويساوم بالتعيينات سياسياً، فالمادة 2 من المرسوم 111/ 2015 لا تلزم الوزير بأن يعيِّن بالمنصب الشاغر لديه أبناء الوزارة، مما يطلق يده في اختيار من يشغل هذا المنصب، فضلاً على الاستثناء الذي تضمنته المادة نفسها بأن أمانة مجلس الوزراء - التي تؤول إليها الهيئات المستقلة - مستثناة من هذا القانون الذي «يفضل» تعيين ابن الجهة على تعيين من يهبط عليها بالبراشوت!
أين نواب مجلس الأمة من تعديل قانون تعيين القياديين، ولماذا هذا الصمت على العبارات «المطاطة» في هذا القانون، والتي تبيح التعيين «البراشوتي» من خارج الجهة، وفق تفضيل الوزير المعني، ووفق شروط هشة، مثل «تقديم تصور للعمل».. ومن سيحكم على هذا التصور؟ وهل الوزير في هذه الحالة يعتبر جهة محايدة للمفاضلة بين المؤهلين؟
إن الصمت النيابي المطبق يحمل تساؤلات لن نُجملها كلها، ولكن نسوق منها سؤالين: هل هذا الموقف النيابي تجاه تلك القوانين «الرمادية» هو نتيجة قصور في الوعي بأهمية تعديل هذه القوانين، أم لأنهم مستفيدون من صيغتها الحالية بدرجة أو بأخرى؟!

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي