قضية

تفرّغ المبدع... جدلية أدبية ملامحها غامضة

u0645u0646 u0623u0639u0645u0627u0644 u0627u0644u0641u0646u0627u0646u0629 u0645u0647u0627 u0627u0644u0645u0646u0635u0648u0631
من أعمال الفنانة مها المنصور
تصغير
تكبير

في عالمنا العربي، ليس هناك من مجال لأن يكون التعاطي مع الأدب مصدراً للرزق، الذي يمكن الاعتماد عليه في المعيشة، وتوفير بعض أو كل مستلزمات الحياة، وهذه المسألة ليست بالجديدة، فهي قديمة قدم الأدب نفسه، فالأدباء الذين يكتبون الشعر أو القصة القصيرة أو الرواية، أو حتى هؤلاء الذين يتعاملون مع الفكر والفلسفة وخلافه، نجدهم غير قادرين على التفرغ من أجل أن تكون لهم مصادر رزق يتعايشون من خلالها، ومن ثم يجندون كل طاقاتهم ومجهوداتهم في الكتابة، من دون أن يشغلهم عنها شاغل.
فالأدباء لديهم مصادر رزق أخرى غير التعاطي مع الأدب، قد تقترب أو تبتعد عنها، إلا أنها تأخذ من أوقاتهم الكثير ولا تتركهم لإبداعاتهم، فقد يكون الأديب طبيباً أو مهندساً أو أنه يمارس أي عمل آخر، إلى جانب ما يقوم به من كتابة في مجالات أدبية مختلفة، وإن اقترب من مجاله ربما يعمل صحافياً أو موظفاً في مكتبة، أو في مؤسسة متخصصة في المجال الثقافي، وغيرها، وهذه الأعمال أيضاً سيكون لها أثر سلبي على الإبداع الذي يقوم بكتابته، ولن يكون هناك منجزات تحقق، في دائرة ما يحلم به، فأوقاته تأكلها هذه المهن التي يؤديها، حسب ساعات عملها، وحسب ما تحتويه من هموم ومشاكل وحرق للأعصاب... الخ.
وحتى الأديب العالمي نجيب محفوظ، سنجد أنه قضى جل عمره في وظيفة حكومية، كانت هي مصدر رزقه، الذي يصرف منه على نفسه وأسرته، بينما العائد الذي كان يتحصل عليه من التعاطي مع الأدب كان قليلاً لا يكاد يكفي حاجاته الأساسية، إلى أن حصل على جائزة نوبل التي وزعها على بناته، وفي مختلف البلدان العربية ستجد أسماء أدبية كبيرة، لديها ما يشغلها عن الأدب، حتى وإن كان عملاً أكاديمياً في الجامعات، أو في السلك الديبلوماسي، ومن ثم فإن فكرة تفرغ هؤلاء الأدباء للأدب تكون – في الغالب الأعم – غير واردة، إلا إذا كان هذا الأديب في الأساس مقتدراً مادياً ولا يحتاج للعمل للإنفاق على أسرته.


وفي ما يطلق عليه التفرغ الأدبي في المجتمعات العربية، قليلة بل نادرة، ولا تفعل بالشكل الذي يضمن لها النجاح، أو أنها غير مقدرة ويرى فيها المسؤولون مضيعة للمال والوقت، خلاف، ما يحدث للتفرغ الرياضي المنتشر بكثرة، ويستفيد منه الرياضيون، مع الفارق الكبير بين ما تحققه الرياضة من مكاسب للمجتمع مقارنة بالشأن الثقافي والأدبي.
لذا فإن نظرة المجتمع للتفرغ الرياضي، موغلة في السلبية، ولا ترى فيها الفائدة المرجوة، تلك التي تحقق ما يتطلعون إليه من أسباب المتعة، الرياضي الذي يتفرغ سيبهج الجماهير وسيصبح نجماً تتسلى بمتابعة أخباره ونجاحاته في ركل الكرة، وإحراز الأهداف، وتمثيل الوطن في المحاقل الكروية، بينما ما الذي ستجنيه الجماهير من مبدع يكتب الشعر والقصة والرواية والنص المسرحي أو يفكر في المستقبل، ويحلل الواقع، ويفسر النظريات التي تشغل العقول، ويشرح الواقع من منظوره الثقافي والعملي.
إنها مسألة غاية في التعقيد تلك التي تجعل من الأدب أمراً غير ذي قيمة، في ما تظل الحياة في دورانها الهائل، معنية بالثقافة التي تنمي العقول وتدفع إلى التطور والتحضر، وترمم التآكل الذي يصيب مفاصل الحياة نتيجة للركود الفكري، الذي يعقبه ركود مجتمعي وعلمي وحتى سياسي، مما يزيد من الجهل وتسلط البيروقراطية على حياة الشعوب، وضعف النزعة نحو مختلف التقدم، والبحث عن أسباب النجاح، وتحقيق الرفاهية والنمو في كل مرافق الحياة.
فمن المؤكد أن عدم التفرغ للإبداع، سيقلل من إنتاج الأدب الحقيقي الذي يواجه به المجتمع حياته، ويحقق تطلعاته، وسيفوت علينا فرصاً عظيمة لأن نكون أصحاب ثقافة متطورة، وعدم الركون إلى الماضي الذي نستقي منه أمجادنا، بينما الحاضر فقير في إبداعاته التي تخترق الواقع بقدر كبير من التميز والحضور.

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي