الرأي اليوم / حفاظاً على ما بقي من رصيدك

تصغير
تكبير
هي الخامسة في اقل من ثلاث سنوات. سترى النور في ظروف لن تكون افضل من سابقاتها تماشيا مع الهوية السياسية الحالية في الكويت: التراجع والتراجع ثم... التراجع.
لن تكون الحكومة المقبلة متقدمة عن سابقاتها كما لم تكن الحكومة الراحلة متقدمة عن سابقاتها. واذا اردنا ان نكون صادقين مع انفسنا فلا شيء في الحياة السياسية والاقتصادية في الكويت متقدم عما سبقه كي لا ندخل في جدل تفصيلي عن القطاعات العامة المتعلقة بحياة الناس.
لن تكون الحكومة متقدمة لأن المشكلة ليست في الاشخاص. المشكلة في النهج والادارة والاسلوب. المشكلة في الرؤية الملبدة بالغيوم. في التخطيط المفتقر الى مقومات الوضوح والوقائع وادوات التنفيذ. في الاستراتيجيات المرتكزة على شعارات كبيرة ووسائل بدائية. والاهم من ذلك كله تكمن المشكلة في النظام السياسي العام الذي رسم حدودا وخطوطا للعلاقة بين السلطتين تجعل الاتفاق صفقة والاختلاف ازمة.

لا نريد، ولا يريد احد، ان يظلم سمو رئيس الوزراء او يقيم تجربته بعين القسوة. فالرجل ترأس اربع حكومات في ظروف انتقالية كانت تموج بالازمات الظاهرة والكامنة، ومع ذلك نقول ان الصديق من صَدَق لا من صَدّق وان الموضوعية تقتضي منا القول ان الرصيد السياسي الكبير الذي كان لسمو الشيخ ناصر المحمد لم يعد بحجمه السابق وان طريقة ادارته للامور استنزفت رصيده اولا قبل ان نتحدث عن موازين الربح والخسارة.
بعض من يخرج من ديوانكم يا سمو الرئيس يرى في كثرة تشكيل الحكومات ظاهرة سياسية عادية وديموقراطية موجودة في دول كثيرة مثل ايطاليا. لكن الصحيح ايضا انها ظاهرة غير صحية لاننا لسنا... ايطاليا، فهناك امور البلاد والعباد مفصولة عن السجال السياسي بين السلطات بحيث نرى معدلات تنمية عالية ونجاحات اقتصادية متسارعة وتقدما في الحرب على الفساد وتنقية الادارة في الوقت الذي تستقيل حكومة او «يعتزل» برلمان. اما هنا فالعلاقة بين السلطات مضطربة متأزمة وكل ما في البلد ينحدر من اعلى الى اسفل وبشكل مخيف، من التنمية الى هيبة النظام، مرورا بكل القطاعات الاخرى. نسمع شعارات كبيرة ولا نرى سوى الجمود والتراجع.
يا سمو الرئيس هي فرصة للمراجعة لأن رصيدك السياسي ما زال، ورغم النزف الذي تعرض له، كافيا للانطلاق مجددا على قواعد جديدة تحكمها بلا شك تجربة الاعوام الماضية. المجلس سيبقى المجلس، بهذه الوجوه ام بغيرها، والنزعات الانتخابية والصوت العالي والمصالح ستبقى كما هي. طبعا الجميع يتمنى تغيير نمط العمل البرلماني في اتجاهات تشريعية ورقابية ومنتجة ومتعاونة لكن اذا كانت المسألة تحتاج وقتا طويلا وتراكم ثقافات سياسية مختلفة لدى المرشح والناخب على حد سواء، فإن ما يمكن ان يتغير وما يجب ان يتغير في الوقت الحالي هو نمط عمل السلطة التنفيذية التي تشكل الحكومة قلبها النابض.
اول التغيير هو الاختيار. فالمحاصصة والتقاسم وتعيين من يفترض انهم الاكثر تأثيرا في هذه الكتلة النيابية او تلك القبيلة او ذاك التيار السياسي او المذهب، اثبت فشله الذريع اذ وجدت الحكومة نفسها مرات كثيرة امام شعار «من بيت ابي ضربت» واكتشفت مرات كثيرة ان التسريبات تأتي من داخلها وان الولاءات الضيقة لبعض اعضائها اكبر من الولاء الاوسع للخدمة العامة. المحاصصة لم تعد تجدي وكل ما حققته هو «ترس» الادارات الوزارية بأنصار هذا الوزير او ذاك تبعا لانتماءاته، او بأنصار هذا النائب او ذاك تبعا لبنود «معاهدة عدم الاعتداء» المبرمة سرا بين النائب والوزير.
الاختيار يجب ان يرتكز على الكفاءة والكفاءة فقط، والسلطة التنفيذية يجب ان تهجم بسيف المشاريع تحت سقف القانون لا ان تبقى دائما في موقف المدافع واحيانا بما يخالف القانون. والسلطة التنفيذية مدعوة الى الاصلاح والتغيير بأسلحة البرامج التنموية وتطوير الادارة والشفافية ومحاربة الفساد. فاذا تحققت هذه المواصفات سواء لجهة اختيار الوزير الاكفأ او بالنسبة الى خطط العمل الواضحة والقانونية، تصبح الحكومة متحررة من الضغوط النيابية وغير النيابية وقادرة على اشهار موقفها وفرض هيبتها. اما اذا اختل اي عنصر من هذه العناصر فالمساومة لن تقود الا الى المزيد من المساومات، والصفقة لتمرير اي مشروع لن تقود الا الى المزيد من الصفقات، والخضوع للابتزاز السياسي لن يقود الا الى المزيد من الخضوع.
سمو الرئيس، لم يعد سرا ان الازمة التي نعيشها لا تتعلق بأشخاص بل بنظام سياسي، وان الفرصة لقيادة دفة الادارة لم تعد وقفا على مسؤول بعينه، بل على مؤسسات السلطة والحكم. وهل تريدون دليلا اكبر مما جرى في الايام الماضية حيث صار الحديث عن حلول غير دستورية «وجهة نظر» يتبناها كثيرون في السلطة وخارجها، فيما صارت ردود الفعل القاسية في الاتجاه المعاكس محور ندوات وخطابات علنية بينما كانت في السابق من المحرمات؟ وهل هذه هي الديموقراطية على الطريقة الايطالية يا سمو الرئيس؟
نعرف ان الحمل ثقيل، وان من يعمل داخل السلطة غير الذي يراقب من خارج السلطة. نعلم ان كثيرين اختلفوا حول كل شيء لكنهم اتفقوا ضدك. نعلم ان املك خاب في وزراء ونواب واصدقاء واصحاب. نعلم انك وصلت في احيان كثيرة الى مراحل لم تصدق فيها ان العقبات في الطريق يمكن ان يضعها مقربون منك او اشخاص منحتهم ثقتك. نعلم انك تعلم من يعمل ضدك من داخل الاسرة وان استمرارك في الصمت ترفعا لن يزيدهم سوى اقتناعا بنجاح وسائلهم. وتعلم يا سمو الرئيس ان عليك وضع حد لتدخلاتهم كي تبقى الامور محصورة بدوائرها وتبقى للاسرة خصوصيتها.
هي الخامسة في اقل من ثلاث سنوات. اعقلها وتوكل يا سمو الرئيس وقم بالتغيير اللازم في الاختيار والنهج وبرامج العمل، لا لاستعادة رصيدك السياسي فحسب وانما لإعادة تثبيت النظام السياسي على دعائم ثابتة تسمح بالتطوير في كل المجالات. وما دام الدستور سقف بيتك وما دام القانون سلاحك وما دامت مصلحة الكويت والكويتيين نصب عينيك أولاً وأخيراً فلن تخشى في الحكم لومة لائم. أما إذا كانت الخامسة كسابقاتها فعلى الكثير من الأمور... السلام.
جاسم بودي
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي