جودة الحياة

أبي... جنة أحلامي

No Image
تصغير
تكبير

انتصارك الحقيقي هو الشعور الذي ينتابك كل صباح، وأنت تستيقظ من نومك لتجد الشخص الذي تستطيع أن تحبه من دون مقابل، تستطيع معه وبه أن تطوع الظروف والدنيا كلها لصالحك من دون أن تشعر بالخوف من مواجهة مواقف الحياة أياً كانت، اختبارات دراسية أو رهبة الالتحاق بعمل جديد أو مواجهة خيار السفر لمكان آخر بعيداً عن البيت والأسرة، أو حتى مقابلة طبيب أسنان. فعندما أكون في حضرة أبي لا يهمني شيء ولا أحس بالخوف بل بطمأنينة تملأ قلبي لتفيض على العالم وعلى الحياة.
إن التقدم في السن - وهو أمر طبيعي - لن يغير من حب الأب لأبنائه شيئاً، فمهما كبرت وصرت مهندسا، مدرساً، طبيباً أو صحافياً أو ذا منصب مهني عال سيظل حب أبيك ومكانتك في قلبه لا تتغير مهما تغيرت أحوالك وصرت أقوى وأكثر اعتمادا على نفسك، سيظل يتعهدك بالرعاية والنصح والوصايا التي تأتي من خبرة نهر الحياة الهادر، فحياة آبائنا إنما هي امتداد لحياة من سبقوهم. ستنظر دوماً إلى الأمام وأنت في حضرة الشيخ الوقور الذي أنفق سنوات ناضرات من عمره في تربيتك وتعليمك وإعدادك لحياة ناجحة وحظوظ دنيوية مختلفة، فنحن مدينون في وجودنا وحياتنا لآبائنا، فهم من يتحدّوْن ظروف الحياة ومصاعبها من أجلنا، يهاجرون للعمل في بلدان بعيدة ويتحملون فوق طاقاتهم لأجل أن نعيش نحن حياة كريمة، لا يهتم للمصاعب في سبيل تحصيل عيش أولاده، في سبيل أن نتواجد قدر الإمكان ضمن شروط وظروف حياة أفضل.
شعور عظيم أن نعيش سنوات طويلة وأعماراً مديدة برفقة الأب، فهو الرجل الوحيد على هذا الكوكب الذي يعطي دون انتظار مقابل، الرجل الوحيد الذي مهما كنت يحبك بلا قيد وشرط، تظل مكانة الأب سامية لا يضاهيها علو كالوديعة الذهبية لها حاضر ومستقبل. فالأب حتى في حال تقدمه في العمر يظل الصديق الأمين، هو مستودع الحكمة والحب الذي لا ينضب ولا يمسه الزيف والتلون والتغير على مر الأيام، صديق يفضلك على نفسه، يحترق من أجلك. وسيظل أبي حباً يحكيه دعائي له دائماً، في نظر العالم أنت أبي، وفي نظري أنت العالم. أبي الغالي يا قلبي النابض، يا جنة أحلامي وينبوع حناني ويا شمس الأماني وأحلى من في حياتي، يا أولى نظراتي في الحياة، يا بلسم روحي الشافي، يا من وجدت في الحياة معنى لذاتي ويا أول قصة عشق في حياتي. ليتها الأيام تُهدى والسنين، مثلما تُهدى الهدايا بالتمام، لأهديتك عمري يا أبي.
يا قدوتي الأولى، ونبراسي الذي ينير دربي، أنت من علمني أن أصمد أمام أمواج الحياة الثائرة، أنت من أعطاني ولم يزل يعطيني بلا حدود، أنت من أرفع رأسي عالياً افتخاراً به، يا من أفديك بروحي، أبعث لك باقات حبي واحترامي وعبارات نابعة من صميم قلبي، وإن كان حبر قلمي لا يستطيع التعبير عن مشاعري نحوك، فمشاعري أكبر من أن أسطرها على الورق، ولكني لا أملك إلّا أن أدعو الله عز وجل أن يبقيك ذخراً لي ولا يحرمني ينابيع حبك وحنانك حتى بعد رحيلك الإجباري إلى مثواك الأخير، فأنت باقٍ في قلبي وروحي وكل كياني ولن يفرقنا شيء.
أبي أنت لي نور وضياء، وفي قلبي الحياة، أنت في الأرض الربيع وفي الينبوع ماء. أسمع دقات قلبي وستعلم كيف أن القيود تكسرت، كيف الورود تعطرت كيف الليالي أقمرت كيف الغيوم أمطرت، ناديت بكلمة أبي، فلم أجد كلمة تمحو ما بي سواها، لم أجد دنيا تحتويني سواها. أبي، لم أجد صدراً يضمني إليه سواك، فأنت نبع الحنان السامي، ونبع الحب الصافي. أبي أنت من علمني معنى الحياة، أنت من أمسكت بيدي على دروبها الشائكة، أجدك معي في ضيقي، أجدك حولي في فرحي، أجدك توافقني في رأيي، حتى لو كنت على خطأ فأنت معلمي وحبيبي، فتنصحني إذا أخطأت، وتأخذ بيدي إذا تعثرت، وتسقيني إذا ظمئت، وتمسح على رأسي إذا أحسنت. لا حب إلّا حب أبي، ولا أمان إلّا أمانه.?. ?
???تقول الكاتبة الأميركية راشيل فينسنت: «بدأت أتذكر فجأة تلك الأوقات الجميلة التي قضيتها مع أبي، أريد أن أضع يدي حول خصره وأحضنه من جديد، كنت لا أستطيع أن أصل لخصره بالكامل عند معانقته، كان قوياً على مصاعب الحياة، وجاء يوم حملته بدلاً من أن يحملني وكل ما أردته في تلك اللحظة أن أعيده من ذلك الطريق».
وتقول الروائية والكاتبة الانكليزية جودي بيكولت: «ضحى والدي بحياته من أجل العائلة عندما كنت صغيرة، كان من أشجع وأحكم الأشخاص الذين عرفتهم في حياتي، كنت أفخر عندما كنت صغيرة بوالدي بأنه رجل إطفاء يكافح الحرائق وينقذ الأرواح ويرسم الابتسامة على وجه كل شخص يقابله».
كما أن كتب السيرة حفلت بالكثير من الأحاديث والمعاني، التي تحث علي بر الوالدين لأنهما أحق بالبر وحسن الصحبة، حيث جاء نص القرآن صريحاً في قوله تعالى: «إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أوكلاهما فلا تقل لهما أفٍ ولا تنهرهما»، وفي قوله تعالى أيضاً: «ووصينا الإنسان بوالديه إحسانا»، وجاء في الحديث النبوي الشريف قوله صلى الله عليه وسلم: «رغم أنف من أدرك أبويه عند الكبر أحدهما أو كلاهما فلم يدخل الجنة».
فقد جاءت الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الشريفة كلها في سياق التأكيد المطلق على ضرورة الاهتمام والبر بالوالدين، وتقدير نعمة وجودهما حتى في حالة الكبر والعجز. فقد حث القرآن علي الإحسان للوالدين في حال تقدمهما في السن، لأنهما في أشد الحاجة إلى الرعاية والاهتمام، وفي وصايا لقمان الحكيم لابنه تتجلى أهمية بر وطاعة الوالدين. فلا أدري كيف يسمح بعض الأبناء لأنفسهم بإساءة التعامل مع الوالدين، ومن خلال عملي في مجال الاستشارات الأسرية، كانت هناك بعض الحالات من الآباء والأمهات ممن يشتكون من سوء التعامل من قبل أبنائهم، لاسيما في حالة الانفصال أو الطلاق والتفكك الأسري، وهي حالات شائعة في مجتمعاتنا.
فقد يساء إلى الأم أو الأب، لسبب أن أحدهما اختار في مرحلة ما أن يبتعد عن الشريك، ويؤثر النأي بنفسه عن المشاكل فيعاقب بأن يتم شحن الأبناء من قبل أحد الوالدين، وتحريضهم ضد الشريك الآخر طوال الوقت. فربما يكون الأب أو الأم قد تسرع بقرار الانفصال أو الطلاق، وقد يكون ندم فعلاً لتركه أبناءه في مراحل من حياتهم كانوا يحتاجونه سنداً لهم، ولكن يظل البر بالوالدين أمراً واجباً على الأبناء، وهو من أحب الأعمال إلى الله ورضا الله في رضا الوالدين، ويعد البر بالوالدين من أسباب تفريج الهموم والكروب وانشراح الصدور والنفوس.
وتحلو الحياة وتكون مفعمة بالحب والسعادة والرضا في وجود الأسرة المتماسكة، التي يرُحم صغيرها ويوُقر كبيرها فيكون البيت واحة أمن يستظل به من مصاعب الحياة وهمومها، وهكذا تُؤسس الأسرة النافعة التي تعمل لخير محيطها الإنساني الكبير.

* مستشار جودة الحياة
Twitter: t_almutairi
Instagram: t_almutairii
[email protected]

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي