قضية / حينما لم تعد لوجهة النظر قيمة

السجالات الأدبية والفكرية... تاريخ ثقافي شعلته مُطفأة

u0645u0646 u0623u0639u0645u0627u0644 u0627u0644u0641u0646u0627u0646u0629 u0639u0628u064au0631 u0627u0644u0643u0646u062fu0631u064a
من أعمال الفنانة عبير الكندري
تصغير
تكبير

نقل لنا التاريخ العربي - عبر صفحاته القديمة - سجالات أدبية وفكرية، لم تكد تنطفئ وتيرتها بين الأدباء والمفكرين اختلافاً وتأييداً، إلا وقد زادت اشتعالاً... فالكل كان لديه أدواته وأرصدته الثقافية، التي تجعله في أتم الاستعداد لأن يتبارى فكرياً وأدبياً مع الطرف الآخر، الذي لا يقل عنه معرفة وثقافة.
وهذه السجالات كان أساسها الدفاع عن الأفكار والاتجاهات، ومن ثم فقد استفادت الساحة الثقافية منها أفضل إفادة، وخرجت من جعبة هذه السجالات كتباً ومجلدات، وإصدارات، لا تزال حتى الآن مراجع يعود إليها المثقفون والباحثون والدارسون، ينهلون من معينها الخصب، ويستفيدون من مضامينها التي تمثل تطوراً ملحوظاً في تناول الفكرة وإجراء سجال حام حولها.
الأمثلة كثيرة على مثل هذه السجالات التي دارت رحاها بين عمالقة الأدب والفكر قديماً مثل عباس محمود العقاد وطه حسين والمازني والرافعي، وغيرهم، فالكل كان لديه رؤيته الخاص ومفاهيمه المحددة، التي يريد الانتصار لها، فربما تجد فريقاً يحمل الرؤية الأصولية أو الكلاسيكية، وآخر لديه رؤية حديثة أو معاصرة، تجنح إلى التطوير، وإلغاء التقليد، كما أن هناك فريقاً آخر يجمع في رؤيته بين الأصولية والمعاصرة، بين التقليدية والتحديث، وفرق أخرى حائرة بين كل هذه الرؤى، وبالتالي فإن السجالات بين تلك الفرق كانت قائمة، ولم تتوقف أبداً، كما لم تكن سجالات استعراضية - كما نشهده الآن – من خلال المحاورات الإعلامية عبر وسائل الإعلام المرئية، التي لا نحصل منها إلا على مجموعة معتبرة من البذاءات، والشتائم وعدم الاحترام المتبادل، والتراشق بكل ما تطاله الأيدي.
إن السجال قديماً كان مبنياً على مبدأ التفاهم واحترام رأي الآخر، رغم تناوله بالنقد الذي قد يصل إلى مستويات كبيرة من الرغبة في إلغائه، ولكن الاحترام كان متوافراً خصوصاً على مستوى الأخلاق وعدم التجريح، والسعي للنيل من الخصم حتى من خلال فضحه، والتشهير به، والبحث عن كل مثالبه من أجل تحطيمه نفسياً واجتماعياً وإنسانياً... فقط لأنه مختلف معنا في الرؤية أو الرأي.
فقد يخرج السجال قديماً - في بعض الأحيان - عن مضمونه، ليصل إلى قطع الأرزاق، كما حدث بين عملاقين مشهورين في عالم الأدب، ولكن هذه الأمثلة قليلة - إن لم تكن نادرة - ولكن في عصرنا الحالي، ستجد بكل سهولة ويسر، أن الاختلاف في الرأي أو وجهات النظر، قد خرجت من إطاراته الحقيقية، لتدخل في إطارات أخرى بعيدة عن روح الأدب والفكر، وتغوص في مجالات أخرى قوامها الشتم والتهديد والتلويح بقطع الأرزاق، وترويج الإشاعات، وغيرها.
وكم أنتجت السجالات - قديماً - أفكارا... حركت الماء الراكد، وأشعلت القرائح، وأنارت الطرق، وأكدت على أهداف أدبية وفكرية شاملة، وساهمت في تمهيد الطرق من أجل الوصول إلى مستويات راقية، خدمت الحياة الثقافية بكل مستوياتها، وعناصرها.
فقد كان السجال إما نثراً من خلال تأليف الكتب التي تتماهى مع فكرة مضادة وتحاول تحليلها، وإثبات خطئها، أو حيادها عن الطريق الصحيح، وإما من خلال الشعر الذي أبدع فيها الشعراء القدامى، ومن ثم كانت سجالاتهم في منتهى الرقي والشفافية، رغم ما كان في بعضها من تهجم، إلا أنه كان تهجماً في محتوى الفكرة، وليس في شخص صاحبها، وإما لقاءات وحوارات إعلامية، كان الجمهور يتابع أحداثها باهتمام، ولم تخرج على وجه الإطلاق من الأطر المحددة لها مهما حميت النقاشات، وتبارت الأفكار.
ولكننا ما نشهد الآن هو موت فعلي لمثل هذه السجالات، حتى النقد لم يعد بالمستوى الذي نتمناه، لأن أي كاتب أو مفكر لا يتحمل مطلقاً أن يوجه إليه أي نقد، فهو يطمح إلى الإطراء على طول الدوام، وتجده - إن وجهه أحدهم إلى خطأ ما في كتاباته أو أفكاره - قد ركبه الشر وتخلى عن هدوئه ووقاره، وناصبه العداء واتهمه بعدم الفهم أو أنه مدسوس، أو يعمل لمصلحة آخرين، أو أنه حاقد، ولا يفكر للحظة في أن يباري سجاله أو نقده بآخر، فتفكيره منصب في أنه قد طُعن في كبريائه، وأنه من المفترض أن يسمع الإطراء مع التغافل عن الأخطاء.
هذا هو حالنا الآن... وهو الذي جعل الحياة الثقافية بكل عناصرها الفكرية والأدبية والفنية راكدة، لا تتحرك البتة، مما ساهم في الجمود الذي نعيشه وهو جمود - للأسف - قد انسرب بشكل فاحش على الحياة الاجتماعية من حولنا.

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي