أصبوحة

عم فلفل

تصغير
تكبير

دلفت إلى مقهى ريش الشهير في ميدان طلعت حرب، في قلب القاهرة النابضة بالحياة والحركة، بأصواتها وطعمها ورائحتها المميزة، حيث الإرث الثقافي عميق الغور، وحيث يقف تمثال طلعت حرب شامخاً في وسط الميدان، وتسكن على ضفاف الميدان المكتبات، التي تنبعث منها رائحة الورق والثقافة الراسخة، مثل مكتبة مدبولي ومكتبة الشروق.
وبعد صباح شتوي دافئ، دلفت إلى مقهى ريش الشهير، الذي كان يرتاده نجيب محفوظ، وكثير من المثقفين والأدباء والفنانين منذ العام 1908، مثل محمود عباس العقاد والأخوين أمين وعبد الرحمن الشرقاوي ومحيي الدين اللباد ولويس عوض، وصلاح عبد الصبور وفؤاد حداد وعبد الوهاب البياتي وأمل دنقل، وكذلك فنانون كبار مثل بديع خيري ويوسف وهبي وحسين رياض ونجيب الريحاني وغيرهم الكثير من الأسماء التي لمعت في عالم الثقافة والفكر والفن والأدب في القرن الماضي.
وأول ما وقعت عيناي عليه، هو عم فلفل النادل النوبي، الذي ارتبط اسمه بمقهى ريش منذ 66 عاماً، عاصر خلالها هؤلاء المشاهير والنجوم، وكان يقدم القهوة لنجيب محفوظ، ولذا تجد صورة له على الحائط، وهو يسكب القهوة لمحفوظ الكاتب الكبير.


في داخل مقهى ريش، هناك قاعة شبه مخفية عن الرواد، تحمل يافطة باسم الصالون الثقافي، تتصدرها صورة نجيب محفوظ، وحولها كل الشخصيات التي ذكرتها وغيرها، كما لصقت على الحائط مقالات وتحقيقات، كتبت في جريدة الأهالي وغيرها حول عم فلفل، واسمه الحقيقي هو محمد حسين.
دخلت المقهى ومددت يدي مصافحاً عم فلفل، فصافحني بيده السمراء الصغيرة، قلت: «صباح الخير عم فلفل» فرد عليّ بصوت غير مسموع، فعليك أن تقرب أذنك منه لتسمع ما يقول، كان يلبس ملابس عادية، وما أن دقت الساعة الثانية عشرة ظهراً، حتى لبس البنطلون الأسود والصديري، لكنه لم يلبس «الفيونكة» التي اعتاد الظهور بها.
كان المقهى قليل الرواد في تلك الساعة، فاخترت طاولة منزوية بعيدة، لأراقب الداخلين والمغادرين من الرواد، دخل بعض المثقفين منهم عراقيون ومصريون، لكن الملاحظ أن كثيرا من الرواد هم من الفرنسيين، سواء من الذين اختاروا العيش في مصر، ويتكلمون اللهجة المصرية بلكنة، أو السائحين الجدد، لكني لم أعرف سر اهتمام الفرنسيين بمقهى ريش، وبالطبع فإن السائح العربي والخليجي، لا يعرف هذا المكان العريق، الذي يستحق الزيارة كمعلم تاريخي وثقافي.
وما لا يعرفه كثير من الناس، أن هناك مطبعة في قبو المقهى، استخدمت لطباعة منشورات ثورة 1919، أو التي تعرف بثورة سعد زغلول باشا، كما استخدمت أيضاً لطباعة منشورات للحزب الشيوعي المصري وغيره من التنظيمات السياسية، ولكني للأسف لم أتمكن من النزول إليها، لارتباطات مسبقة لدي.
وضع عم فلفل القهوة أمامي، وجلست مسحوراً بالأجواء، وبعم فلفل الذي كان يتحرك ببطء بجسمه النحيل، الذي مرت عليه أحداث تاريخية، وشخصيات ثقافية غيرت وجه مصر، وقبل أن أترك المقهى، شاهدت منظراً مؤثراً، إذ اقتربت إحدى النساء - ويبدو أنها من رواد المقهى - وحضنت عم فلفل قبل أن تغادر، وظل واقفاً بوجهه الذي يخلو من التعبير، وبدا كأنه اعتاد هذا الأمر ممن يقدره كجزء عريق من تاريخ القاهرة وتاريخ الثقافة المصرية.

[email protected]

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي