إشراقات النقد

صورة المثقف الجزائري في نصوص العنف الجزائري «1»

تصغير
تكبير
| سعاد العنزي |
المثقف هو برومثيوس حامل شعلة الثقافة والنور ووهج المعرفة التي ينطلق من خلالها تجاه الكون ليصحح ويقوم مسيرة الإنسانية، ويضيء الطرق بقناديله المعرفية، يضيف مفاهيما ويعدل أخرى، ولا يهدأ له فكر، حتى يرى إحلال الحقيقة محل الخطأ، والفضيلة بدلا من الرذيلة، والجميل مكان القبيح، هو شخص مشغول بالبحث عن جماليات الكون، هذا هو المثقف الحقيقي، ولكن المثقف الحقيقي الإيجابي، صانع الحضارات، فثمة مثقف سلبي، يعرف ولا يوظف معرفته في نفع الآخرين، وربما ألحق الضرر بهم، وآخر إشكالي، يعرف ويدرك الخطأ ولكنه عاجز عن الانجاز والتلفظ في الحقيقة، وإصلاح الكون.
وهذه الأنماط الثلاثة تم التطرق لها بشكل مفصل في الروايات الجزائرية التي كتبت عن العنف، لأن كتاب الروايات هم مثقفين في المقام الأول، ولولا الموهبة والثقافة، لاستحالت الحكاية. وفيما يلي عرض لها:
أ- المثقف السلبي أو اللامنتمي
توافرت في الروايات صورا للمثقف السلبي أو اللامنتمي أولا، هذا مع التأكيد على ندرته في النماذج الروائية، وهو فيما يعرفه محمد عزام، إذ يبدأ في التفريق بين اللامنتمي والسلبي فيقول: «وأما السلبي واللامنتمي فيتشابهان في كونهما بلاقيم. وقد يكتفي اللامنتمي بالوقوف على الحياد، بينما يقع السلبي في مستنقع القذارة، وينغمس في حياة الغاب، تقوده أنانيته إلى الفتك بالآخرين، والصعود على جثث الأبرياء. وهو بطل العصر الصاعد من رحم الطبقات الفقيرة التي لاتملك غير بؤسها، والذي يرغب في الوصول السريع». (1) وهذا الأمر تم كشفه في المتون الروائية الجزائرية، من أبرزها وأكثرها وضوحا شخصية أحمد المعلم في رواية «وادي الظلام»، إذ بدأ بالرواية معلما مثقفا نشيطا مجتهدا، يعمل على نشر الوعي والثقافة ، ومؤسس جمعية حقوق المرأة في مجتمع غيبت به حقوق المرأة، وعوملت على أنها مخلوق مسلوب الإرادة والكيان. كل هذا الجهد من أحمد المعلم، يقابله نبذ من المجتمع، إذ يقرر شيوخ المشيخة العليا أنه: «شروط الشيخ المعين في المشيخة أن لا يكون إلا أميا خالص الأمية» (2)، والدليل على ذلك أنه «لا يعرف نبيا من الأنبياء الكبار كان متعلما مثقفا».(3)
في وسط هذه القيم يستمر المعلم بالكفاح، وبنشر قيمه الروحية، نابذا القيم المادية، داعيا إلى رسالته الإنسانية، يربي ابنته عائشة على حب العلم والاستمرار في التحصيل العلمي. إلى أن تتوجه نظرات المتطرفين و أميرهم أبي هيثم نحو المعلم لأنه: « كثيرا ما يثور على الأوضاع الاجتماعية المتخلفة، كما كان لا يتردد في إبداء رأيه في بعض المعتقدات البالية، التي يروجها الجهال في الجلولية على أنها من الدين الصحيح وهي، في حقيقتها، ليست منه في شيء... ولذلك لم يسلم في أعوام الفتنة من التعرض لمحاولة اغتيال».(4) فيحاول الإرهابيون إطلاق النار عليه، ولكنه ينجو من الموت بأعجوبة.
هذه الحادثة تعتبر نقطة التحول في حياة الأستاذ ، فتنهار منظومة القيم التي كان يؤمن بها، ويتحول من بطل فاعل إلى بطل سلبي لا يهتم إلا بنفسه، ويبدل قيمه القديمة بقيم جديدة قيم المرتزقة الذين لا يعتنون إلا بالمصالح الذاتية لهم ، فيتحول من الشخص المحب لأسرته المحافظ إلى منزله إلى آخر يبيع ويفرط بقيمه الروحية بسهولة فأول مايفعله ترك مهنة التعليم، والاشتغال في التجارة ، والزواج بأمرأة أخرى غير زوجته فتاة صبية.
وهذا التحول المفاجئ يلفت نظر القارئ بغرابته؛ فليس من المعقول أن يكون العهد الطويل من القراءة والاطلاع، والدفاع عن حقوق الإنسان ونبذ القيم المادية، يتغير في لحظة واحدة، هذا أمر بعيد عن التصديق يستطيع المرء أن يفهم إن الإنسان يتحول من مناضل إلى متحفظ، ولكن أن تتبدل قيمه بهذه الصورة الفجة، فهذا أمر غير مقبول. إلا أن المؤلف قصد من هذه المبالغة توضيح مدى فجاجة العنف والإرهاب على المرء، وكأنه يقول ان ماحدث له دور في تغيير وقلب الأدوار، وتغييب المنطق.
أما الشخصيات الأخرى التي تعرضت لها الروايات من حيث سلبيتها في التعاطي مع الأحداث، فهي شخصيتي علي وكريم في رواية «الورم»، إذ كلاهما ينتسبان لثقافة عميقة، تؤمن بحقوق الإنسان ويرفضان العنف بأي وجه من الوجوه. فكريم معلم وفي الوقت نفسه مناضل ومنتسب إلى التيار الإسلامي المعتدل ويرفض القتل بأي صورة من الصور إلا إنه بعد الخروج من السجن وانسداد أفق الحياة لديه، فصله من المهنة والفراغ والوحدة والبطالة، وعامل أهم من هذا كله وهو ملاحقة الإرهابيين له، ومطالبته بالانضمام إلى الحقل الإرهابي، وأول طلب طلبوه منه هو قتل صديقه وزميله محمد يوسفي الصحفي، فيرفض أول الأمر ولكنه يكون بين خيارين، إما قتل صديقه أو موته، فيختار النجاة، ويقتل صاحبه وينضم إلى حقل الإرهاب.وهذا الأمر يثير الدهشة لدى شخوص الرواية فيقول أحدهم لكريم: «أأنت المعلم الذي ذبح الصحفي... إنك مجنون. لماذا ذبحته بتلك الوحشية؟ ألم يكن صديقك؟ أنت المعلم المربي المثقف، تسير تحت سلطة هذا الجاهل».(5) والغريب ان الرواية تنتهي وينتهي معها كريم إلى قناعة تامة في الأفعال الإرهابية، بل ويطمح في أن يصل إلى رتبة أمير، فيقول: «من دون كلمة. اقتفيت أثر أميري يزيد الحرش. متبوعا بعبد اللطيف. إنني مسرور جدا بهذه الترقية. إنها البداية. أنا أيضا أرغب في رتبة أمير يقود جماعة من الرجال الأشداء ينصاعون لأوامري. قريبا إن شاء الله».(6)
أما علي أخو كريم فهو ضابط في الجيش، ولكن حادثة حجز أخيه أثرت على مستقبله المهني، ففصل من مهنته.
(1) السابق، ص12.
(2) رواية «وادي الظلام»، ص15.
(3) الرواية، ص16.
(4) الرواية، ص80-81.
(5) رواية «الورم»، ص205.
(6) السابق، ص294.
* كاتبة وناقدة كويتية
Mobdi3on@windowslive.com
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي