الزاوية الخضراء
قصـة الورق (1)
أما شبعتم من السياسة! أم لم تملّوا من صراعاتها، أما سئمتم من صخبها و جدلها الذي تقسو معه القلوب وتنفطر فيه الأكباد، هيا استريحوا في ركبنا الأخضر والتقطوا أنفاساً حضارية باردة.
إن مسيرة البشرية عبر العصور الرتيبة تتخللها طفرات نوعية، تنقلها فجأة من مرحلة إلى أخرى، ومن عصر إلى أرقى، وكما نحن اليوم نعيش طفرة التكنولوجيا وننعم بأجهزتها الحديثة، فإن البشرية قد شهدت طفرات أعظم منها في التأثير.
ومن هذه الطفرات مثلا ثورة الورق، وإياك عزيزي القارئ أن تغتر بما تملكه الدول اليوم من سلاح فتاك أو تشاهده في المدن من ناطحات شاهقة أو ما تحمله بين يديك من آيباد أو ما تراه من لابتوب أو موبايل يتلاعب به الأطفال، ذلك أن نتاج كل ما وصلنا إليه هو عالة على ما اكتشفه الأولون وأسسه السابقون الغابرون.
إن البشرية لترتقي السلم درجة درجة، ولولا تلك الدرجات التي مهدت السبيل، بالتضحيات والعلوم والعقول التي عبدت الطريق ، لم نكن لنصل إلى ما وصلنا إليه، فالأولون الذين اخترعوا الكتابة قبل آلاف آلاف السنين، لولاهم ما كنت تنعم بقراءة هذا المقال ولا كل ما في تلك الأجهزة الحديثة التي جعلت العالم صغيرا حاضرا بين يديك.
ان الحضارة إرث بشري، وتركة تتوارثها الأمم التي ساهمت في تشييدها، ولم تكن الطريق مفروشة دائما بالورود، فكما كانت أمم تبني وتنشر النور، هناك أمم كانت تهدم وتحرق وتبيد كما زرعت المغول الجماجم والخراب حيث حلت، وهناك فريق ثالث من الأمم كان على الهامش أو يكاد، ولك أن تتخيل عزيزي القارئ أن الحضارة البشرية أشبه ما يكون بالقصر المشيد ذي البناء العالي، قد شيدت أدواره أجيال وأمم ، وكل لبنة من لبنات جدرانه تحكي قصة من قصص النور، سنقف عند إحداها هنا لنحكي قصة الورق.
إذا كانت الكتابة شقيقة الورق، فقد اكتشفت في بلاد العرب، وتحديدا ما بين وادي الرافدين إلى الشام إلى النيل، وولدت الأبجدية في الشام، وقد بدأت الكتابة على الأحجار والطين، ولك أن تتصور كم تستغرق من الوقت كتابة رسالة وجيزة، إلا أن العهد العربي الإسلامي الأول قد أخذ يكتب على الجلود الرقيقة، وعلى ورق نبات البردي الرشيقة، التي كانت تنتجها عشرات المعامل في مصر زمن الأمويين أو ربما المئات، كانوا يلصقون بعضها إلى بعض، وبالطول وبالعرض، ويشكلون منها رقاعا صغيرة وكبيرة في نشاط تجاري دؤوب، ليواكب فيض علماء الأمة الزاخر في الرياضيات والفلك والفقه واللغة والتفسير وكتب صناعة الحرف والهندسة والطب والترجمة والتعريب والجغرافيا والفلسفة والتاريخ و البلاغة والشعر والتراجم وشتى العلوم الأخرى ملبية نداء آية «اقرأ» في أول ما نزل من محكم التنزيل.
ويكفي أن نعرف أن للعرب اليوم مما سطروه في هذا الورق من علوم - كما يقول المرحوم الدكتور شاكر مصطفى - رغم ما ضاع أو هلك في النكبات ما يزيد على مليوني مخطوط في مكتبات الدنيا بين نيويورك ونيودلهي واسطنبول ولندن وروما وفيينا وبرلين ، وقد حوت كل هذا الإنتاج العلمي الضخم مادة الورق التي نشرها العرب بين الناس ثورة من أعظم الثورات.
ومن بين شتى الأمم ممن بنت حضارتها الخاصة كالبابليين والإغريق والفرس ومصر والهند والرومان، هناك من هو أبعد في أقصى الأرض قد اتسمت حضارته بمزيد من العزلة كحضارة الصين ذلك البلد العظيم، وكان ثمة مادة رقيقة للكتابة لدى الصينيين كانت أغلى من المعادن النفيسة ولا سبيل للوصول إليها ولو بشق الأنفس، إلا أنه في زمن أول الخلفاء العباسيين أبي العباس التقى في أحد المعارك الفاصلة بجيشه بقيادة قتيبة بن مسلم مع الجيش الصيني وهُزم الأخير وكان من بين الأسرى الصينيين اثنان يعرفان سر صناعة الورق واتفقا مع سيدهما أن ينالا الحرية إن أنتجا له الورق، وقد كان، فأنشأ أول مصنع للورق في سمرقند من الكتان وخليط من مواد نباتية طبيعية من بيئتنا الخضراء الجميلة، ثم انتقلت تلك الصناعة إلى جميع مدن العرب، ويكفي أن تعلم أن عدد المدن التي شيدتها الحضارة العربية قد بلغت أربعمئة وتسعين مدينة أحصاها بنفسه صاحب كتاب المدن في الإسلام، وبُذل بذلك الورق للجميع.
سادتي القراء، لقد عرفت الأجيال الصالحة أن البيئة الخضراء من أعمدة حضارتها الزاهية، وسنلقي المزيد من الضوء الأخضر عليها في المقال القادم بإذن الله.