مؤلف «ما بعد الإمبراطورية» توقع انهيار الاتحاد السوفياتي قبل حدوثه بأعوام عدة

أفول القوة العسكرية الأميركية... لا رجعة فيه

تصغير
تكبير
|القاهرة - من هناء محمد|
«ما بعد الإمبراطورية» آخر كتاب منشور للفرنسي إمانيول طود، ولقي فور نشره رواجا في فرنسا، وحقق مبيعات كبيرة وكان محل نقاش واسع خاصة أن مؤلفه عرف وتميز بتحليلاته الصائبة فقد سبق وتوقع انهيار الاتحاد السوفياتي في كتاب صدر له العام 1976، وهو ما تحقق بالفعل بعد أعوام عدة.
يتعرض كتاب «ما بعد الإمبراطورية» إلى انكشاف القوة الأميركية والتحول التدريجي لأميركا من قوة عظمى إلى قوة كبرى، وإلى تفكك النظام الأميركي حيث أصبحت أميركا بحاجة إلى العالم أكثر من حاجة العالم إليها.
يفتتح المؤلف كتابه بجملة قال فيها: «إن الولايات المتحدة في طريقها لأن تصبح مشكلة بالنسبة للعالم»، فبينما: «اعتدنا أن نرى فيها حلا، وضامنة للحرية السياسية، والنظام الاقتصادي خلال نصف قرن فهي تظهر اليوم أكثر فأكثر عامل فوضى دولية حيث تبقي على اللايقين والصراع».
إن أميركا تحتم على العالم أن يعترف بأن دولا تشكل «محور الشر» يجب محاربتها كما تستفز قوى أخرى مثل روسيا والصين وتضع حلفاءها في موقف حرج باستهدافها مناطق متاخمة لهؤلاء الحلفاء.
ويرى المؤلف أن حلفاء أميركا مترددون ومحرجون أكثر فأكثر، ففرنسا تنتهج موقفا استقلاليا، أما ألمانيا المستاءة فجاء موقفها مفاجئا، أما بريطانيا فهي على عادتها وفية للخط الأميركي، بينما يعبر الصمت الياباني عن انزعاج أكثر مما يعبر عن انخراط في سياسة أميركا. ويقول الكاتب أن: «الأوروبيين لا يفهمون لماذا ترفض أميركا تسوية المسألة الإسرائيلية-الفلسطينية بالرغم من أن لها القدرة على ذلك». وبدأوا يتساءلون عما إذا كانت واشنطن راضية بأن تدوم بؤرة توتر في الشرق الأوسط، وأن تعبر الشعوب العربية عن عدائها المتنامي للعالم الغربي. ويضيف: «إن أميركا تريد أن تجعل من تنظيم «القاعدة» قوة مستقرة وشريرة لتبرر التدخل في أي مكان وفي أي وقت باسم الإرهاب».
انخفاض القوة
يطرح الكاتب نموذجا لتفسير السلوك الدولي لأميركا معتبرا أنها لا تعاني من فرط القوة وإنما انخفاض في قوتها، ويخلص إلى أن القوة الأميركية في تراجع، وأن مراكز القوة في العالم تتعدد، وأن التكتلات الإقليمية الكبرى ستفقد جدوى وجود مركز أميركي عالمي.
ثم يتطرق المؤلف إلى أطروحات فوكوياما قائلا إنها تقود في نهاية الأمر إلى «لا حاجة للعالم إلى أميركا». قائلا: «إذا قبلنا بفرضية مايكل دويل، والتي تبناها فوكوياما، والقائلة بأن الديموقراطية لا تدخل في حروب فيما بينها، فهذا يعني أنه حين تعمم الديموقراطية في العالم فإن أميركا كقوة عسكرية تصبح عديمة الجدوى بالنسبة للعالم، ما يحتم عليها أن تكون ديموقراطية بين ديموقراطيات أخرى. بينما كانت في السابق تقدم نفسها على أنها حامي الديموقراطية والحرية ضد النازية الشيوعية».
ويرى أن هذا الخوف أخذ شكل تأكيدات رسمية عكسية ففي فبراير 1998 وصفت وزيرة الخارجية الأميركية السابقة مادلين أولبرايت مبررة إطلاق صاروخ على العراق أميركا بـ «الأمة الضرورية». ويعتبر المؤلف أنه لما تأكد رسميا ضرورية أميركا للعالم فهذا يعني أن مسألة جدواها مطروحة، ويرى أنه يجب القبول بأن الهيمنة الأميركية بين 1950 و1990 كانت مفيدة، وهذا سيساعدنا في فهم تحول أميركا من الجدوى إلى عدم الجدوى بالنسبة للعالم.
استراتيجية الانفرادية
ويلفت الكاتب النظر أن القوة الاقتصادية الأميركية بدأت تتقهقر في السبعينات مع ظهور عجز بنيوي في الاقتصاد الأميركي. ويرى أن تسارعا في عملية تبعية أميركا نتج عن انهيار الشيوعية فبين 1990 و2000 قفز العجز التجاري الأميركي من 100 إلى 450 مليار دولار. وعليه فإن أميركا في أمس الحاجة لتدفق رؤوس الأموال الأجنبية، ويلاحظ أنه في بداية الألفية الثالثة لم تعد أميركا قادرة على العيش من إنتاجها وحده. وفي الوقت الذي يوشك فيه العالم، الذي هو أكثر استقرارا تربويا، سكانيا، ديموقراطيا، أن يكتشف أن بإمكانه الاستغناء عن أميركا، تدرك الأخيرة أنه ليس بوسعها الاستغناء عن العالم.
ومن المؤكد: «أنه سيتعين على أميركا أن تناضل بعد الآن سياسيا وعسكريا للحفاظ على هيمنة ضرورية لمستواها المعيشي».
ويضيف: «ان قلب علاقة التبعية الاقتصادية هذه هو العامل الثاني والذي إذا أضيف إلى العامل الأول، أي تعدد الديموقراطيات، سمح بشرح غرابة الوضع العالمي والسلوك العجيب للولايات المتحدة وارتباك الكوكب... كيف يمكن تسيير قوة عظمى اقتصاديا، ولكن عديمة الجدوى سياسيا؟».
يرى الكاتب أن استراتيجية أميركا الانفرادية تحوي ثلاثة عناصر أساسية: الأول: عدم تسوية أي مشكلة نهائيا لتبرير عمل عسكري. والثاني: يخص التركيز على ميكرو-قوى (العراق، كوريا الشمالية) إن: «الطريقة الوحيدة للبقاء سياسيا من قبل العالم هي مواجهة فاعلين من الدرجة الدنيا للرفع من شأن القوة الأميركية وهذا لمنع أو على الأقل لتأخير وعي القوى الأساسية التي ستتقاسم مع أميركا التحكم في العالم: أوروبا، اليابان وروسيا على المدى القصير... والصين على المدى البعيد». والأخير: تطوير أسلحة جديدة يفترض أن تضع أميركا الأولى، في تسابق نحو التسلح يجب ألا يتوقف أبدا.
ويضيف الكاتب: «ان قائمة وحجم البلدان المستهدفة تحدد موضوعيا قوة أميركا القادرة على الأكثر على مجابهة العراق، إيران، كوريا الشمالية أو كوبا ولا يوجد أي سبب للذهول أو لإدانة ظهور إمبراطورية أميركية والتي هي في حقيقة الأمر قيد التفكك، بعد عقد على تفكك الإمبراطورية السوفيتية».
التبعية الاقتصادية
ويعتبر طود أن أميركا لم تعد هي الأمة الكبرى كما كانت في السابق: «نظامها الديموقراطي في أزمة ولذا فهي تحاول أن تحافظ وتبرر هيمنتها وشرعيتها باستهدافها بلدانا قليلة الأهمية اقتصاديا وعسكريا». ويضيف: «ان التوازن العالمي في تحول، والعالم يسير نحو عالم متعدد الأقطاب ستكون فيه أوروبا وروسيا واليابان فاعلين أساسيين». ويعتبر أن النمو المستمر للبلدان غير الغربية، وتزايد عدد الدول الديموقراطية يساهمان في هشاشة السيطرة الأميركية، وأن عودة أميركا إلى مصاف: «قوة كبيرة من بين قوى أخرى يبدو لا رجعة فيه».
ويستند المؤلف في تحليلاته على إحصائيات ليظهر التبعية الاقتصادية المتنامية لأميركا حيال العالم الخارجي، ويورد أرقاما توضح أن أميركا تسجل عجزا في ميزانها التجاري مع جميع البلدان المهمة في العالم، أما الفائض في الميزان التجاري التكنولوجي (سلع التكنولوجيا المتقدمة) فهو في تراجع حيث هبط من 35 مليار دولار عام 1990 إلى 5 ملايين دولار عام 2001 ليسجل عجزا في العام ذاته. ويلاحظ أن الاقتصاد الأميركي نمت فيه الخدمات المالية التأمينات والعقارات بوتيرة أسرع بمرتين من وتيرة نمو الصناعة وذلك بين عامي 1999 و2000.
أما أرقام الناتج القومي الأميركي الخام فضخمت بسبب المخالفات الكبرى، كما حدث في فضيحة المؤسسة الاقتصادية العملاقة «إنرون»، وحجم إفلاس نجم عنه تبخر 100 مليار دولار. ويلاحظ أن هذا الرقم يمثل حوالى 1 في المئة من الناتج القومي من الخام الأميركي ويقول: «إنه مع تزييف حسابات الشركات الأميركية بدأ هذا الناتج يشبه من حيث المصداقية الإحصائية للناتج القومي الخام السوفيتي».
أفول لا رجعة فيه
ويرى أن أميركا قيد التحول إلى فضاء متخصص في الاستهلاك، وتابع للعالم الخارجي فهي ليست مهمة للعالم من حيث إنتاجها وإنما من حيث استهلاكها.
أما عسكريا فيرى أن أفول القوة الأميركية لا رجعة فيه، وأن إشكالية أميركا العسكرية هي أنها لم تواجه أبدا خصما في مستواها العسكري، كما أنها لم تربح حربا بمعنى الكلمة فحتى الحرب العالمية الثانية لم تكن لتنجح فيها لولا التضحيات الروسية على الجبهة الشرقية. ويرى أنه بحكم تبعية أميركا للعالم فإنه لم يعد بوسعها انتهاج الانعزالية. كما يرى أنها ليست حقا قوية فهي تفتقر إلى قوات برية، وهي بحاجة ماسة لقواعدها العسكرية في الخارج أكثر من حاجتها لحاملات طائراتها. ويعتبر أن تركيزها على نفط الشرق الأوسط يعبر عن تخوفها من أن يقذف بها خارج أوراسيا، و أن تحالفا أوروبيا - روسيا قد يعني نهاية السيطرة الأميركية على العالم.
ويعتبر طود أنه من خلال نشاطها العسكري الموجه ضد الدول الضعيفة تسعى أميركا لحجب انحسار قوتها فهي تستخدم مكافحة الإرهاب و«محور الشر» كمبررات. وبما أنه ليس بوسعها التحكم في كبار الفاعلين الاقتصاديين والاستراتيجيين، أي أوروبا، وروسيا، اليابان، والصين، فإنها ستفقد التحكم في العالم وتصبح قوة كبرى بين قوى كبرى أخرى. ويعتقد أنها تريد، من خلال السعي للتحكم في مصادر الطاقة، إلى إخفاء بؤسها الثقافي والاقتصادي المتنامي وتبعث بإشارات عسكرية لإعطاء الانطباع بأنها مازالت الأمة القوية كما في الماضي، لكن الحقيقة أن أوروبا والقوى الصاعدة هي المستهدفة من قبل أميركا.
القوى العسكرية
وفي رأي المؤلف الفرنسي الشهير فإنه وبعد تضخيم الإمكانات العراقية، وبعد تحرير الكويت، فإن الخيار الأميركي الجديد الانخراط في أكبر عدد من الصراعات مع قوى عسكرية مثيرة للسخرية والتي تنعت بـ «الدول المارقة». أما «الميكرو-عسكريتارية المسرحية الأميركية» فتهدف: «لإظهار ضرورة أميركا للعالم» بسحق خصوم لا شأن لهم.
والهاجس النفطي لأميركا لا يفسر في رأيه بأغراض استهلاكية محلية، «على الرغم من اعتمادها المتزايد على النفط الخارجي» وإنما بالتحكم في مصادر الطاقة في العالم، ذلك أن أميركا تعتقد أن التحكم في هذه المصادر الضرورية لأوروبا واليابان يمكنها من ممارسة الضغوط عليهما. وعليه فإن استراتيجيتها في الشرق الأوسط وسياستها حيال العراق وإيران لا تهدف إلى التحكم في الطاقة الموجهة لأميركا، وإنما الموجهة للعالم خصوصاً أوروبا واليابان. لكن الدول النفطية في حاجة إلى تصدير نفطها لتلبية حاجيات سكانها فلا خوف على إمداد أوروبا بالنفط رغم انكشافها في مجال الطاقة عكس أميركا التي تأتي نصف وارداتها النفطية من فنزويلا والمكسيك وكندا. وإذا أضفنا هذه النسبة إلى النفط الأميركي المنتج محليا فإن 70 في المئة من الاستهلاك الأميركي يأتي من الأميركتين، بينما تعتمد أوروبا واليابان على الشرق الأوسط أساسا ويضيف: «إنه مهما كانت القوة العسكرية الجوية والبحرية الأميركية فليس بوسعها الحفاظ إلى ما لا نهاية وبعيدا عن التراب الأميركي على تفوق عسكري من دون دعم الأمم المحلية». ويرى أن وعي أوروبا واليابان بقوة إمكاناتهما، وعودة روسيا إلى التوازن العالمي سيقود في المدى المتوسط إلى انهيار الزعامة الأميركية.
العرب كبش فداء
في رأي طود فإن التركيز الأميركي على العالم الإسلامي يعبر عن تخوف من إقصاء أكثر منه عن قدرة على توسيع الإمبراطورية، ويكشف قلق أميركا أكثر ما يعبر عن قوتها على التركيز على العالم العربي، يفسر أساسا بضعف هذا الأخير الذي يفتقر إلى وجود دولة قوية فهو بطبيعته كبش فداء، وعليه فالعالم العربي يعد مسرحا لاستعراض قوة أميركا التي بمقدورها أن تحقق فيه انتصارات تذكر سهولتها بألعاب الفيديو. ويقول المؤلف: «إن الخيار الأميركي المناوئ للعرب خيار السهولة وليس مدروسا فالعرب يعاملون بسوء لأنهم ضعفاء ولأن لديهم النفط ولأنه لا يوجد لوبي عربي فعال في اللعبة السياسية الداخلية الأميركية».
ويختتم كتابه بالقول إن: «تهديدا واحدا للتوازن يحدق اليوم بالكوكب»، «أميركا نفسها التي تحولت من حامية إلى نهابة». ففي الوقت الذي لم تعد جدواها السياسية والعسكرية بدهية، فهي تدرك أنه لا يمكنها الاستغناء عن السلع المنتجة من قبل العالم. هذا العالم واسع، مكتظ سكانيا ومتنوع وتتخلله قوى غير قابلة للتحكم. ويعتبر أن: «العسكريتارية الاستعراضية والتي كان من المفترض أن تثبت العجز التقني العسكري لكل بقية الفاعلين العالميين، قادت في نهاية الأمر إلى انشغال القوى الحقيقية التي هي أوروبا واليابان وروسيا، ودفعها من الآن فصاعدا إلى أن تتقارب فيما بينها». فقد بدأت أوروبا تعي أن روسيا ليست تهديدا استراتيجيا لها بل أصبحت مساهمة في أمنها العسكري. ويعتبر أن القوى الحقيقية اليوم كما في الأمس هي سكانية، تربوية وأن السلطة الحقيقية اقتصادية فلا داعي للانسياق وراء تسابق نحو التسلح مع أميركا: «يقود إلى التدخل في بلدان دون أهمية استراتيجية حقيقية».
ويعارض المؤلف التدخل عسكريا إلى جانب الأميركيين ضد العراق ويضيف: «إنه لم تنجح أي دولة في القرن العشرين في تنمية قوتها عبر الحرب أو عبر زيادة قواتها المسلحة». ويعتبر أن أوروبا واليابان وروسيا ستخسر كثيرا إن هي انخرطت في هذه اللعبة ملاحظا أن الولايات المتحدة خرجت منتصرة في القرن العشرين لأنها وخلال حقبة طويلة من الزمن رفضت الدخول في الصراعات العسكرية في أوروبا.
وينهي كتابه قائلا: «لنترك أميركا تنهك ما تبقى من طاقتها في مكافحة الإرهاب كبديل للكفاح من أجل الحفاظ على هيمنة، لم تعد موجودة. إن استمرت أميركا في تعنتها لإظهار قوتها الخارقة للعالم فإنها تظهر في نهاية الأمر عجزها للعالم.
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي