الوعّاظ... بين الثراء والإثراء

تصغير
تكبير

تعتبر القنوات الفضائيات من أخطر الوسائل تأثيرا في الشعوب، لذا توليها الحكومات أهمية كبيرة؛ لأنها تؤثر في عقول الناس وفي مواقفهم تجاه كثير من القضايا.
لقد أصبحت الفضائيات مساهما فعليا في تكوين المفاهيم وتعديلها، أو حتى تغييرها، في مناحي الحياة المختلفة: السياسية، والثقافية، والاقتصادية؛ والرياضية، والدينية... إلخ. وأصبح لكل من هذه المجالات نجومه الذين حازوا شهرة واسعة، وكونوا ثروات طائلة من المبالغ التي يتقاضونها مقابل ظهورهم الإعلامي.
وبالطبع لا نستثني من هؤلاء رجال الدين، أو «وعاظ الفضائيات» الذين سئل أحدهم يوما: لماذا تتقاضى أجرا مقابل وعظ الناس؟ فأجاب بأنه يحتاج وقتا لإعداد مادته الوعظية، وأن هذا الوقت يكون على حساب عمله الذي يكسب منه رزقه!


هل هذا الرد مبرر كاف لجني «الملايين»؟! إن كان ما يقدمه هذا الداعية أو ذاك يربي أجيالا وينشَّئ أما فإنه يستحق ما يتقاضاه وزيادة، لكن ماذا لو كانت هذا الأموال تدفع لنشر الفرقة والتطرف مثلا؟ ماذا لو أصبح هناك سوق لمن «يعظ» أكثر، ويسيِّس فتاواه لمصلحة جهة ما، أيا كانت توجهاتها؟! أليس ذلك طريقا للثراء على حساب المجتمع؟! يضره تفككا وفرقةً!
إن الظواهر السلبية التي ظهرت نتيجة فتاوى هؤلاء الوعاظ التي فتكت، ومازالت تفتك، بالمجتمعات وتضرها، وهي عكس المرجو منها.
لقد أصبح ثراء وعاظ الفضائيات ظاهرة في مجتمعاتنا العربية، لاسيما الخليجية منها، وظهرت أخطار فتاواهم المسيسة والموجَّهة، خصوصا إذا كان من يقف وراءها شخصية محل ثقة عند الناس.
كذلك من الآفات التي لازمت ثراء بعض المتدينين هي حبهم السلطة لدرجة تصل أحيانا إلى التسلط، ساعدهم في ذلك الخلافات التي تقطع أوصال مجتمعاتنا، والفتاوى التي تجعلهم دائما على الحق والآخرين على الباطل! وما ظواهر التكفير التي تنتشر اليوم، وأخطار تقسيم المجتمعات إلا نتيجة هذا الترف الفكري والمادي لهؤلاء الأثرياء الذين غذوا نعرات الاستقلال والتمييز داخل المجتمع، فانقسم إلى جماعات متناحرة تدعي كل منها أنها «الفرقة الناجية»!
وفي كتابه «متاهات الوهم» يرى الدكتور يوسف زيدان أن هذه التقسيمات تحول «ذات المواطن» من «ذات كلية» تشعر بالوطن وهمومه وبالمسؤولية تجاهه إلى «ذات نوعية» تخلق له وطنا آخر يقدم له الولاء والطاعة، حتى لو على حساب الوطن الأم!
ظاهرة أخرى، هي أن الثري يميل إلى الأكثر ثراء، فينجذب إليه ويتقرب منه. والخطر هنا هو لو اتُخذ الدين طريقا للثراء، بتسييسه ليصب في مصلحة الأثرياء، والسياسيين، ومثال ذلك، أننا نجد كثيرا من «وعاظ الفضائيات» لا يريدونك أن تنتقد السياسيين بذريعة منع تهييج الشارع وإثارته، كأن دور المتدين هو تجميل القبيح وتبرير الخطأ.
إن مثل هذا التكسب هو ديدن من اتخذوا دينهم مصدرا لـ«أكل العيش» والثراء! لا منطلقا للدعوة، فهم لا تشغلهم مصالح الناس، ولكن تهمهم مصالح أغنيائهم فقط.
إن ثراء المجتمعات الخليجية سهَّل على هؤلاء المتدينين نشر أفكارهم، وما نبت على ضفافها من ظواهر مقيتة أصبحت كالنار تأكل الأخضر واليابس، وأصبح الفرد فيها لا يهتم بصلاته التي هي علاقة بينه وبين ربه، ويركن إلى المظاهر التي تضمن له صيتا وسمعة وإن كانا مزيفين! وباتت المجتمعات تعاني أمراضا اجتماعية فتاكة، أقلها أن الكل أصبح ضد الكل، والجميع يكرهون الجميع في مرحلة أسماها د. عبدالله الغذامي في كتابه «الفقيه الفضائي» مرحلة التطرف الفكري.
لقد أصبحت معاناة مجتمعاتنا أمرا لا تخطئه عين، وأصبحت مداهنة مثل هؤلاء «الوعاظ» الأثرياءَ والسياسيين ـ على حساب دينهم- أمرا مكشوفا، وهي بالطبع ليست من الدين، وإن استطاعوا خداع بعض الناس بعض الوقت فلن يستطيعوا خداع كل الناس كل الوقت على حساب الإسلام ومبادئه، لأن تلونهم ونفاقهم سينكشفان، مهما طال الزمن، وستستعيد مجتمعاتنا عافيتها وصلاحها وتلاحمها وتسامحها، ولن يصح إلا الصحيح.

Nasser.com.kw

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي