من «بليسّيت 1983» إلى «نيمار 2017» الراتب سرّ النجاح... وليس الصفقة الرنّانة
في العام 1983، وضع كشّافو نادي ميلان الإيطالي لكرة القدم نصب أعينهم لاعباً صاعداً أسمر البشرة، يتألق في صفوف واتفورد الانكليزي.
في الواقع، وجّه هؤلاء الكشافون سهامهم نحو جون بارنز، الذي غدا بعد سنوات أحد رموز ليفربول العريق، بيد أنهم وقعوا في خطأ جسيم إذ اختلط عليهم الأمر. فقد تعاقدوا مع لاعب أسمر آخر من الفريق ذاته، ظناً منهم أنه بارنز في حين أنه لم يكن سوى زميل الأخير، لوثر بليسّيت.
تعددت السيناريوات التي تحدثت عن تلك الواقعة «غير المألوفة»، بيد ان أكثرها واقعية أشار الى ان الكشّافين تحدثوا إلى إدارة واتفورد عن «اللاعب الأسمر»، فظنت الأخيرة، عن حسن نية أو عن غير حسن نية، بأن المقصود هو بليسّيت.
لا تبدو «القصة» غريبة خصوصاً أن التعاقدات وما يدور في فلكها من مفاوضات، كانت تشوبها تعقيدات جمّة في تلك الحقبة مقارنةً بما تشهده في الزمن الراهن الذي يتحكم فيه وكلاء اللاعبين بمفاصل «لعبة الانتقالات».
المهم أن بليسّيت، طيب الذكر، انتقل بالفعل الى ميلان مقابل مليون جنيه استرليني (حوالي 1.5 مليون دولار أميركي في ذلك الحين)، وهو مبلغ كبير يُدفع في لاعب مطلع ثمانينات القرن الماضي.
بدأت رحلة لوثر في النادي اللومباردي، قبل ان يتحول الى «مزحة» كبيرة في ايطاليا حيث أمضى سنة تعيسة قبل ان يجري بيعه مجدداً الى واتفورد، لكن بنصف القيمة التي دُفعت لشرائه.
لا شك في أن الوجه الايجابي الوحيد للصفقة تمثل في قولٍ جاء على لسان بليسّيت نفسه بعد سنوات على تجربته الايطالية، وفحواه أنه «لا يهمّ مقدار الأموال التي تمتلكها هنا، إذ لا يبدو بأنك قادر على شراء رايس كريسبيز»، وهي وجبة إفطار بريطانية شهيرة غير متوافرة في إيطاليا.
المقصود في كلام بليسّيت أن المال الذي حصل عليه في إيطاليا لم يكن كفيلاً بجعله لاعباً لامعاً.
في صيف العام 2017 وحده، أنفقت الأندية حول العالم 4.71 مليار دولار أميركي على انتقالات اللاعبين (حوالي 3.6 مليار جنيه استرليني) بحسب TMS وهي الادارة التي تراقب حركة الانتقالات الخارجية الدولية لدى الاتحاد الدولي لكرة القدم (فيفا).
ويشتمل هذا المبلغ الضخم بالتأكيد على الـ 263 مليون دولار (222 مليون يورو) التي دفعها باريس سان جرمان الفرنسي للحصول على خدمات البرازيلي نيمار دا سيلفا من برشلونة الاسباني، ما جعل منه صاحب أغلى صفقة انتقال لاعب كرة قدم في التاريخ.
في واقع الأمر أن معظم الأموال التي «تُرمى» في سوق الانتقالات، تذهب أدراج الرياح.
ثمة دراسة أجريت قبل سنوات تشير الى ان القيمة الصافية التي يصرفها أي نادٍ في سوق الانتقالات لا تنعكس الا بصورة خجولة جداً على الموقع الذي يحتله في ترتيب البطولة التي ينتمي اليها، بمعنى أن لا نسبة وتناسباً بين ما يُصرف على صفقات انتقال اللاعبين من قِبل نادٍ معيّن والموقع الذي يحتله الأخير في الدوري الذي يخوض غماره.
الدراسة شملت ما أنفقه 40 نادياً انكليزياً ما بين العامين 1978 و1997، وتوصلت الى ان صافي نفقاتها على الانتقالات («الصافي» هو الحاصل من المبالغ المصروفة على ضم لاعبين جدد، ناقص المبالغ الواردة نظير بيع لاعبين) يلعب دوراً لا تتعدى نسبته الـ 16 في المئة على مؤشر تبدل الموقع على جدول ترتيب الدوري.
هذا يعني، عبر مرور السنوات، بأنّ النادي الذي يُعرف عادةً بأنه «يشتري لاعبين» لا يكفيه أن يكون كذلك كي يقدم أداءً أفضل من النادي الذي يُعرف في السوق بأنه «يبيع لاعبين».
وبيّنت الدراسة نفسها بأن الأندية التي تخصص ميزانية كبيرة لرواتب اللاعبين (وليس لشرائهم)، دأبت على تحقيق فارق مهم، فقد أشّر ذلك الى ان نسبة التغيير في موقعها على جدول ترتيب البطولة التي تخوض منافساتها بلغت 92 في المئة.
وجرى التوصل الى هذه النسبة بعد دراسة حركة الأندية الـ 40 في سوق الانتقالات وتبدّل مواقعها في ترتيب المسابقات التي تشارك فيها بين 1978 و1997.
وفي دراسة أخرى غطّت الفترة بين 2006 و2016، تبيّن بأن الرواتب التي دفعتها أندية الدوري الممتاز وأندية دوري الدرجة الاولى في إنكلترا أثرت بنسبة 90 في المئة على مواقعها في ترتيب المنافسات.
ويبدو، على المدى الطويل، بأن من شأن الرواتب المرتفعة التي ترصدها الأندية للاعبين ان تساعدها على تحسين موقعها، أكثر من الانتقالات الرنّانة التي يسيل لها اللعاب.
بالتأكيد لا يمكن أن ينتقي نادٍ، أيُّ نادٍ، وبصورة اعتباطية عدداً من اللاعبين ويضاعف رواتبهم، ثم ينتظر ان يضاعفوا عطاءهم في الملعب ويحققوا له الفارق.
ليس المقصود هنا ان من شأن الراتب المرتفع أن يؤدي حكماً الى أداء ممتاز. المقصود ان من شأن الراتب المرتفع أن يجذب لاعبين أصحاب أداء مميز.
برشلونة قادر، بفضل موارده، على سداد أجر الارجنتيني ليونيل ميسي، فيما يعجر مواطنه نادي إيبار، مثلاً، عن ذلك. وإن كان لديك ميسي وعدد من اللاعبين الجيدين الى جانبه، فلا شك بأنك ستفوز بالكثير من المباريات.
الأندية الغنية تدفع أجوراً مرتفعة لتحصل على لاعبين جيدين، وبالتالي الرواتب المرتفعة هي من يأتي بالنجاح.