خواطر تقرع الأجراس
من يأخذ بثأرهم؟
الآداب والأساطير والخرافات بصمة سرية تختزن رؤية الإنسان للحياة، والموت، وما بعده، بل وللكون كله.
ومن الخرافات العربية قبل الإسلام خرافة الهامة والصدى؛ وتتعلق بقضية مقدسة: الأخذ بالثأر عند عرب الجاهلية الأولى، بل حتى عصر الجاهلية الثانية في بعض الأقطار العربية.
فالعرب الجاهليون كانوا يؤمنون بأن هناك طائراً خرافياً يخرج من هامة القتيل ويظل يحوم حول قبره صائحاً: اسقوني اسقوني. يريد سُقيا الدم بالثأر فهو متعطش لدم القاتل. فإذا قُتِل القاتل ارتاحت روح القتيل.
يقول المؤرخ المسعودي: يزعم العرب أن النفس طائر ينبسط في الجسم، فإذا قُتِل الإنسان لم يزل يُطيف به مستوحشاً يصدح في قبره. ويزعمون أن هذا الطائر يكون صغيراً ثم يكبر حتى يصير كضرب من البوم. وهو أبداً مستوحش ويسكن في الديار المعطَّلة ومصارع القتلى والقبور. وأنها لم تزل عند ولد الميت لتعلم ما يكون بعده فتخبره به.
قال شاعر جاهلي في رثاء كفار قريش بعد يوم بدر:
يُخَبِّرنا الرسول بأنْ سنحيا
وكيف حياةُ أصداءٍ وبوم؟
وقيل: أصداء جمع صدى وهو طائر يخرج من رأس القتيل. ويتردد ليلاً نهاراً طالباً الثأر... إلخ.
وقال ذو الإصبع العدواني في ابن عمه:
يا عمروُ إن لم تدعْ شتمي ومنقصتي
أضربْك حتى تقول الهامة: اسقوني
وفي الأدب الإنكليزي أيضاً، وفي المشهد الخامس من مسرحية هملت لشكسبير، يظهر شبح أبيه المقتول قاصّاً عليه سر مقتله بالتواطؤ بين أمه وعمه وطالباً الثأر منهما حتى تنطفئ ناره:
أنا روح أبيك، وقد حُكِم عليّ بأن أطوف
في الليل زمناً وفي النهار،
بأن أتضوّر جوعاً في اللهب
سردتُ على مسامعك قصةً،
أخفُّ لفظة فيها تعذّب نفسك،
وتجمّد دمَك الفتي.
وداعاً يا هملت. لا تنسني!
عبر القرون الداميات من عمر الإنسان، قُتل الملايين من البشر، وذهبت دماؤهم هدراً وسدى.
ونحن اليوم نشهد سفك دماء أبرياء، وبالذات من الأطفال والنساء، في الشرق والغرب، في آسيا: جرائم إبادة مسلمي الروهينغا، وفي أفريقيا جرائم بوكو حرام. وعندنا في بلادنا المفجوعة: سورية ومصر وليبيا والعراق واليمن وغزة، مع عدم تجاهلنا أرواح الغربيين الأبرياء التي تتخطّفها عصابات الإرهاب الأسود العابرة للقارات، وعصابات اليمين الغربي المتطرّف العنصري؛ عصابات الإجرام المجنون المهووس بالدم، بفضل قانون إباحة حمل السلاح.
كم من الأطفال والنساء والعجائز... تصيح هاماتهم طالبة الثأر؟ ألا يسمع العالم أصداء وصياح القتلى تملأ آذان الدنيا؟ ألا يسمع «مجلس القلق الدولي» هذا الصياح؟ أمَا من معتصم، أو سيف دولة، أو صلاح دين... تدوّي أصداء الهامات ليلاً نهاراً في أسماعهم؟ أم أن تلك الآذان باتت في صممٍ مطلق عن استغاثات الأرواح الهائمة بين المقابر؟
الشاعر عمر أبو ريشة نادى أُمته العربية حتى بُحَّ صوته:
كيف أقدمتِ وأحجمتِ ولم
يَشْتَفِ الثأرُ ولم تنتقمي
اسمعي نوحَ الحزانى واطربي
وانظري دمع اليتامى وابسمي
ودعي القادةَ في أهوائها
تتفانى في خسيس المغنمِ
رُبَّ «وامعتصماه» انطلقت
ملءَ أفواه البنات اليُتَّمِ
لامستْ أسماعَهم لكنها
لم تلامسْ نخوةَ المعتصمِ
أصداء. هامات. مقابر. مذابح. بوم يصدح ليلاً ونهاراً في الآذان... والكل نيام: صُمٌّ. بُكْمٌ. عميان!
فمن يأخذ بثأر هؤلاء؟
* شاعر وناقد سوري