مثقفون بلا حدود
الزمن الفني في قصص «تجاعيد» للقاص بدر أبو رقبة العتيبي
يعد عنصر الزمان من مقومات الفن القصصي الذي يبدأ بـ (الحدث المتكامل: بداية، ذروة، نهاية- الشخوص: الرئيسة، الثانوية، الهامشية- عنصر الزمان، عنصر المكان- الفن والأسلوب، الخاتمة).
وعنصر الزمان ينقسم إلى قسمين: (الزمن التاريخي) الذي يعد سلة ألفاظ ثمينة وقيمة ونادرة أو قل هو معجم ألفاظ عصره، ولا بد أن يتسم بالمصداقية، والقسم الآخر هو (الزمن الفني) الذي يحسب على القاص أو الراوي، فهو تجربة ومواقعة وحرفية، وبما أن القصة القصيرة هي الأصعب في الفن القصصي، حيث إن الحكاية التي يحلو للبعض أن يسميها قصة (قصيرة جدا جدا جدا)، هي عبارة عن خبر يتداول أو إشاعة تتناقل، أما الأقصوصة فهي كثافة كلامية في حيز ضيق يفقدها بعض المقومات والركائز الأساسية لفن القصة.
أما القصة القصيرة فهي عمل مكتمل القوائم، وهي سرد منحسر زمنيا، بأسلوب إبداعي إيحائي يتوارى فيها الحدث خلف بلاغة القاص، بعكس الرواية التي يتوارى الراوي خلف شخوصه.
ولا نشك في ثقافة قاص القصة القصيرة، وراوي الرواية، إلا أن الأول يظهر ثقافته من خلال مهارة في رسم شخوص قصته وسبر أغوارها، ويتجلى إبداعه في الوصف والتصوير والتعبير، أما الراوي فيجعل ثقافته في شخوصه ويتوارى خلفها، ويجري وراء الأحداث وتشابك العقد، وإذا سنحت له الفرصة فيظهر ما أمكن من براعته في الوصف والتصوير ويعتمد على التعبير في لحظات التنوير.
(تجاعيد) مجموعة قصص قصيرة للقاص الكويتي المهندس المعماري بدر أبو رقبة العتيبي، ضمت بين ثنايا صفحاتها أربع عشرة قصة، مرتبة بحسب الحروف الهجائية على حد قول صاحبها، وبذلك يكون القاص قد بعثر الزمن التاريخي وقطع الطريق على كل من ادعى بأن القصص الأولى من هذه المجموعة غير ناضجة؛ ولعله بذلك قد خدع بعض نقاد القصة.
السرد هو العمود الفقري للفن القصصي بأنواعه، وأصعبه في فن القصة القصيرة؛ فإذا كانت الحبكة القصصية هي العمل المتكامل للقصة، فإن السرد هو وقودها، وبذلك يكون السرد قد ارتبط بكل مقوم من مقومات القصة، وبما أن مقالنا هذا قد خصصناه للزمن الفني الذي يحسب على القاص؛ فينبغي علينا أن نجس مدى توافق السرد زمنيا بالحدث المتكامل للقصة.
اختار العتيبي لمجموعته القصصية أشكالا هندسية؛ فلدينا قصص ذات السرد الحلزوني الذي يبدأ بفوهة واسعة ثم يضيق السرد شيئا فشيئا حتى نصل إلى نهاية مغلقة أو قل ضيقة جدا، وقصص ذات السرد المستطيل أفقيا، وقصص ذات المربع حواريا، وقصص ذات الشكل المتمدد مثل قصة (الراعي الكباشي)، يهندس العتيبي فيها زمنا لسؤال مفاجئ من الراعي الكباشي إلى الصبية الذين تحلقوا حوله وبدر واحد منهم. السؤال: هل تعرفون الطيب صالح يا شباب، أجيبوني؟! ص23.
لو لم يكن القاص ماهرا هنا لتغير السرد القصصي إلى (هل تعرفون الطيب صالح يا شباب؟ ثم صمت برهة من الزمن، وبدأ ينظر إلى وجه الصبية مستغربا ومحدثا نفسه كيف لا يعرفون من هو الطيب صالح تلك القامة السامقة في عالم الرواية العربية، ألا يعلمونهم ذلك في المدارس...). لو لجأ القاص بدر إلى هذا السرد المنفتح لأخذ من زمن القصة لأنه حديث النفس (مونولوج)، لأحد شخصيات القصة سواء أكانت محورية أم غير محورية، وبذلك قد أحدث خللا في زمنها الفني، ولكنه حدد زمنا فنيا لنهاية السؤال يتوافق مع طبيعة الراعي الكباشي الذي استقى ثقافته بواسطة المذياع. ثم تدخل ليصف أو يصور حال الصبية في مواجهة هذا السؤال قائلا «صمتنا جميعا، ولم ينبس أحدنا ببنت شفة؛ معلنين فشلنا باستحضار إجابة شافية عن سؤاله، والذي أردفه باستنكار لا يخلو من تبرم ممجوج كأنه موجه لي أنا بالذات» ص 23.
وكما يقول أحد كتاب السيميائية (الصمت في موضع الصمت كلام)؛ فصمت الصبية هنا إجابة نفي لسؤال الراعي، كما أن الوصف والتصوير بقلم القاص وقريحته ليس حدثا؛ فلا يؤخذ من زمن القصة، إنما الذي يؤخذ من زمن القصة هو الحوار والصمت، والأحداث، وحديث النفس (المونولوج). كذلك هذا التدخل من بدر العتيبي بالوصف والتصوير لم يكن مملا أو مطولا ولا متكلفا، بل جاء رشيقا مشوقا مناسبا للمقام؛ فالأحداث دارت في البر في وقت إجازة ومتعة، لا يريد القاص بدر أن يعكر صفوتها ويخنق أجواءها، إن غاية ما فعله الصبية هي الصمت بأدب واحترام لهذا الراعي، في عنصر الزمن التاريخي الذي كانت (الأنا) الكويتية حاضرة على لسان الكبير والصغير.
قصة (حزن معدان) ص 71. هذه القصة أخذت من القاص خمس صفحات ونصف الصفحة، كان نصيب القاص فيها ثلاث صفحات ونصف الصفحة، ونصيب الشخصية المحورية صفحتان اثنتان، في زمنها التاريخي شأنها شأن بقية المجموعة فهي تحتوي على سلة ألفاظ من اللهجة الكويتية البيئية النادرة، أما من حيث زمنها الفني؛ فلعلني أقف حائرا، أشعر بوجود خلل فأتراجع ملتمسا العذر للقاص؛ فالقضية التي أراد أن يطرحها بدر العتيبي ألزمته أن يجعل الزمن الفني ملكا لصديقه أحمد (الشخصية المحورية)، الذي راح يسرد قصته على هيئة شكاية أو عريضة أو شبه مقال «يقول أحمد... ص 75، يضيف أحمد... ص 76».
هنا ابتعد السرد عن الإنشائية التعبيرية الإيحائية، وأصبح أسلوبا خبريا تقريريا يحتمل الصدق والكذب، الأمر الذي لم نعتد عليه في فن القصة القصيرة، فلو جاءت هذه الشكوى حديثا للنفس (مونولوجا) لتقبلناها على إطالتها، ولو جاءت هذه الشكوى على لسان القاص لتقبلناها لأن هذا هو الطبيعي في فن القصة القصيرة، لعل هذا التوسع ببث الشكوى يكون موافقا إلى شخوص الرواية أكثر من شخوص القصة القصيرة التي يملك زمامها القاص معتمدا في الغالب الأعم على حديث النفس، لربما أراد بدر هنا أن يتوارى خلف شخوصه ليعالج قضية باتت حساسة جدا، ولعله أراد لهذه القضية أن تطرح على لسان صاحبها لتؤثر في أصحاب القرار، ولكننا نعيد كلامنا في صدر هذا المقال (أما القصة القصيرة فهي عمل مكتمل القوائم، وهي سرد منحسر زمنيا، بأسلوب إبداعي إيحائي يتوارى فيها الحدث خلف بلاغة القاص، بعكس الرواية التي يتوارى الراوي خلف شخوصه).
ولعل هذا ما قد صرحت به في مقال سابق، بأن هناك مجموعات قصصية قصيرة كثيرة للشباب، بعد اطلاعنا على ما أمكن من بعضها، وجدنا فيها بعض القصص يصلح مشروعا لقصة متوسطة، وبعضها مشروعا لقصة طويلة، وبعضها مشروعا لرواية، إذا ما أعيد كتابتها من جديد، بإضافة أحداث فرعية لا تضر بفكرة القصة الرئيسة (الثيمة)، بل تمنحها شيئا من عنصر التشويق، ومعها سوف تزداد الشخصيات الثانوية والهامشية، وتكثر الأزمنة المختلفة، وتضاف أماكن متعددة. وكل ذلك يصب في مصلحة المشهد الأدبي، وقصة (حزن معدان) مؤهلة لذلك.
* كاتب وباحث لغوي كويتي
[email protected]