No Script

كوريا الشمالية لم تعد في «محور الشر»!

No Image
تصغير
تكبير

لم تكن اختيارات الرئيس الأميركي السابق جورج بوش، في خطابه عن «حال الاتحاد الأميركي» بمطلع العام 2002، للدول والجماعات التي اعتبرتها واشنطن مصدر «شر وإرهاب»، هي اختيارات عشوائية، ولم يكن سببها هو أوضاع انتخابية أو مجرّد «زلاّت لسان» كان مشهوراً بها بوش، تماماً كما هو حال الرئيس دونالد ترامب الآن. فالمؤسسة العسكرية الأميركية وضعت آنذاك عناصر السياسة الخارجية في ظلّ القيادة الفعلية لنائب بوش، ديك تشيني، ولوزير الدفاع دونالد رامسفيلد، ولمجموعة من «المحافظين الجدد».
ففي ذاك الخطاب جرى الحديث عن «محور الشر» الذي ترى واشنطن فيه تهديداً لها ولمصالح الدول الغربية، وبأنّ دول هذا المحور هي العراق وكوريا الشمالية وإيران. وقد استخدم بوش الابن هذه العبارة لأنّه يعتقد بأنّ تلك الدول تدعم الإرهاب وتسعى لشراء أسلحة الدمار الشامل، وكان ذاك الخطاب هو المقدّمة لما عُرف في ما بعد باسم «الحرب على الإرهاب»، ثمّ لغزو العراق واحتلاله. واللافت للانتباه أنّ جون بولتون، الذي اختاره ترامب ليكون مستشاره لشؤون الأمن القومي، أشار في خطابٍ له يوم 6 مايو من العام 2002، حينما كان يشغل منصب السفير الأميركي لدى الأمم المتحدة، إلى بعض البلدان بعبارة «ما وراء محور الشر» (Beyond the Axis of Evil) مشيراً إلى كلٍّ من: ليبيا، وسورية، وكوبا.
هناك مؤشّرات الآن، بعد وجود بولتون وبومبيو في إدارة ترامب، على السعي لاستعادة بعض هذه المواقف التصعيدية في السياسة الخارجية التي سادت خلال فترة بوش الابن، فهي مواقف تخدم جملة خطط أميركية تشمل الشرق الأوسط وآسيا، وما فيهما من مصالح أميركية ومخازن نفط ومصادر منافسة للقطب الإميركي من خلال الصين وروسيا. فالخطاب الأميركي بمطلع القرن الحالي عن «محور الشر الثلاثي: العراق، إيران، وكوريا الشمالية» كان ضمناً يعني الحديث عن كيفية ضمان «الخير الثلاثي الأميركي»: السيطرة على النفط - التحكّم بالمواقع الإستراتيجية الجغرافية - ضمان الأحادية القطبية الأميركية.  ولأنَّ واشنطن تحرص على أولويات أجندتها، تجنبّت في الأعوام الماضية الردّ التصعيدي على مواقف كوريا الشمالية، لا بل هي شجّعت أطرافاً دولية أخرى، كالصين وكوريا الجنوبية وروسيا، للتوسّط من أجل تجميد الأزمة المفتوحة مع بيونغ يانغ في شأن تجاربها النووية والبالستية، أو بالاعتماد فقط على مجلس الأمن والعقوبات الاقتصادية.


فإدارة بوش الابن وضعت في مطلع 2002 عنواناً لحروبها العسكرية والسياسية في العالم هو «دول محور الشر»، كردٍّ على الهجمات الإرهابية التي تعرّضت لها أميركا في سبتمبر 2001. لكن لم يكن للعراق ولا لإيران ولا لكوريا الشمالية (أطراف محور الشر الذي حدّده بوش) أي مسؤولية عن هجمات سبتمبر، ولم تكن هناك علاقة أصلاً لأيٍّ منها مع «جماعات القاعدة».
ورغم ذلك جرى احتلال العراق بحجّة امتلاكه لأسلحة الدمار الشامل ودعمه للإرهاب. أمّا سلوك إدارة بوش الابن مع كوريا الشمالية، فكان تجاهلاً لها في معظم الأوقات حتّى حينما قامت بإجراء تجارب على سلاح نووي، فإذا بواشنطن تدعو للعودة إلى لجنة المفاوضات السداسية! أي أنَّ إدارة بوش الابن اعتمدت أسلوب الحرب والغزو مع العراق الذي لم تكن فيه أسلحة دمار شامل، بينما مارست واشنطن التهدئة والمفاوضات مع طرف كان يصرخ عالياً بأنّه يملك السلاح النووي ويُجري التجارب عليه!.
هذا كان نموذجاً لسياسة الخداع والتضليل التي مارستها إدارة «المحافظين الجدد» على الأميركيين وعلى عموم العالم، وطبعاً لم تكن هذه هي المرّة الأولى - ولن تكون الأخيرة - التي تتعامل فيها الإدارات الحاكمة في واشنطن مع الأزمات الدولية بأسلوب الكيل بمكيالين. فالصراع العربي - الإسرائيلي حافلٌ بالشواهد على ذلك، إضافةً إلى الموقف الأميركي المزدوج من مسألة المفاعلات النووية وأسلحة الدمار الشامل في منطقة الشرق الأوسط، حيث إنّه مباحٌ لإسرائيل أن تمتلكها ومحظورٌ على دول عربية أو إسلامية أو دول أخرى السعي للحظي بها.
إنَّ شبه الجزيرة الكورية كانت موقعاً مهمّاً إستراتيجياً لأميركا خلال حربها الباردة مع المعسكر السوفياتي، عندما كانت واشنطن تبحث عن قواعد لها في دول شرق آسيا من أجل دعم وجودها العسكري في اليابان ولتستكمل الحصار على الاتحاد السوفياتي. وقد تحقّق ذلك لأميركا في حقباتٍ زمنية مختلفة إلى حين سقوط المعسكر الشيوعي، كما أنَّ واشنطن استطاعت أن تنهي الحرب الكورية في عقد الخمسينات من القرن الماضي بمعاهداتٍ تضمن وجود قواعد عسكرية لها على أراضي شبه الجزيرة الكورية، إضافةً إلى تقسيم كوريا إلى دولتين، وهو الأمر الذي فشلت فيه واشنطن في حربها بفيتنام خلال عقد الستّينات.
كانت كوريا الشمالية، بالنسبة لواشنطن، مسألة من الماضي، يمكن تحريكها أو توظيفها في أيّ وقتٍ بالمستقبل، ولذلك حاولت في السابق استيعاب الفورات العصبية الكورية الشمالية بأقلّ حجمٍ من ردود الأفعال. واستخدمت واشنطن «العصا والجزرة» معاً في مفاوضاتها مع بيونغ يانغ أكثر من مرّة. فأميركا سعت مراراً لعدم تصعيد الأزمة مع الشمال، وها هي تفعل ذلك الآن من خلال التوافق على عقد قمّة تجمع ترامب مع زعيم كوريا الشمالية كيم جونغ اون، كما لم يكن لواشنطن مصلحة في حلٍّ شامل للأزمة الكورية ينهي نفوذها ووجودها العسكري في المنطقة، فتجميد الأزمة كان لعقودٍ من الزمن هو الهدف الأميركي لا حلّ هذه الأزمة جذرياً أو تصعيدها عسكرياً.
كانت واشنطن تنظر إلى التصعيد الشمالي وكأنّه صرخة احتجاج ودعوة إلى تقديم مساعدات ووقف للحصار، ولم تعتبر بيونغ يانغ منافساً إستراتيجياً لها كما كان حال الاتحاد السوفياتي أو كما هما الصين وروسيا الآن، لكن بيونغ يانغ نجحت في اختيار التوقيت لتفجير الأزمة مع واشنطن، وهي مارست التأزيم بهدف الحلّ الشامل لأزمتها مع واشنطن، وليس من أجل الحرب المدمّرة لها. فبيونغ يانغ تريد طمأنةً لها بأنَّ أميركا لن تستهدفها عسكرياً في المستقبل ولن تعمل على تغيير نظامها السياسي، وهي تريد مساعداتٍ نفطية وغذائية، وتريد طاقةً نووية كهربائية، وهباتٍ مالية وعدت بها أميركا واليابان والمجموعة الأوروبية في اتفاقات عام 1994. أي إنّ بيونغ يانغ مارست التشدّد مع واشنطن بهدف القرب منها وليس من أجل الحرب معها. وواشنطن أدركت ذلك في السابق ممّا جعلها تطلق صفة «الابتزاز» على الأسلوب الشمالي، في الأزمة التي تصاعدت بعد توقّف المفاوضات السداسية بسبب جملة من الشروط الأميركية.
ليس لبيونغ يانغ في أزماتها المتكرّرة والمتصاعدة مع واشنطن ما تخسره، فهي تعاني من أوضاع سيّئة، ولن تنتظر قدوم حتفها إليها من خلال أسلوب الموت البطيء الذي يحصل من خلال الحصار والعقوبات الاقتصادية. وقد حاولت بيونغ يانغ، إلى أقصى الحدود، استخدام تهديداتها بما تملكه من قوّةٍ نووية وعسكرية لكي تحصل على اعتراف أميركي بالنظام الحالي ووقف العقوبات المتراكمة عليه. ويبدو أنّ ذلك ما أدركه ترامب وسيسعى لتقديمه كثمن لانتصار سياسي خارجي يحتاجه. حتّى الآن، هناك سقوف عليا أو شبه خطوط حمراء جرى احترامها من الأطراف كلّها المعنيّة بالأزمة الكورية، فلا واشنطن مارست أي تصعيد عسكري ولا هي ترغب به، ولا بيونغ يانغ اعتدت على أي أراضٍ أو سفنٍ أميركية أو حلفاء لأميركا، ولا الصين ولا روسيا ولا اليابان ولا حتّى حكومة كوريا الجنوبية هي مع أيّ حربٍ جديدة في شبه الجزيرة الكورية. ولعلّ هذه «الخطوط الحمراء» هي التي دفعت بكلّ الأطراف إلى البحث عن تسوية شاملة تقبل بنظام كوريا الشمالية وتتعامل معه، لكن مع رقابة وشروط دولية مقابل رفع العقوبات عنها.
 * مدير «مركز الحوار العربي» في واشنطن
Sobhi@alhewar.com

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي