خواطر صعلوك

خطاب إلى الرجل الصغير!

تصغير
تكبير

لا أعرف كتابا يوبخ قراءه ويضربهم على رؤوسهم لكي يستفيقوا من عالم فقدوا فيه السيطرة على مجالهم الحيوي مثل كتاب «خطاب الى الرجل الصغير»، الذي يصرخ فيه عالم النفس فيلهلم رايش على قرائه ويصفعهم ويركلهم، لأنهم فرطوا في معرفة أنفسهم واحترامهم لذواتهم ورغبتهم المتكررة في البقاء في وحل الشعارات السياسية والأهداف القومية والحرية الوطنية، مقابل حريتهم الشخصية والسير في مسارات تاريخية تجعلهم أكثر اتساخا في كل مرة، ويتهم القارئ بالخرس والعته واتباع القطيع لأنه يغدق على الأقوياء المزيد من القوة ولا يمنح الضعفاء سوى نظرات عدائية،لكنه سيكتشف متأخرا،أنه كان المخدوع الوحيد.
ويستغرب رايش ما اقترفه الرجل الصغير من الشعب بحق الشعب نفسه وكيف قدس اعداءه وقتل أصدقاءه وكيف أنه كلما حصل على السلطة كممثل للشعب أساء استغلالها تماما مثل السلطة التي كان ينتقدها (عندنا وعندك خير يارايش)!
ويطالب رايش القارئ بأن يتوقف فورا عن الوجود كرجل صغير، وأن يصبح هو وليس ما يراد له أو منه، ليس كما تريده البيئة المعلوماتية التي تحيط به، أو الأفكار التي تصدر له، وليس الرجل الذي يعتبر الأهداف الاقتصادية أهم بالنسبة له من وعيه، حتى لو كلفه ذلك عموده الفقري (أو عموده الصحافي) أوحتى لو كلفه حياته كلها.


وفي لحظة شفقة يكتب رايش كطبيب نفسي استلقى أمامه آلاف الضعفاء الذين تعروا بالكامل قائلا:
«اسمح لي أن أقول لك ما لم يقله أحد زعمائك أو ممثليك: أنت رجل صغير ونذل...لا تهرب! لتكن لديك الشجاعة للتحديق بنفسك.إنك تخاف النقد كما تخاف فقد الوظيفة التي وعدوك بها، تحتقر نفسك وتقول: من أكون أنا حتى أكون رأيا خاصا بي؟ معك حق، أريد أن أقول لك من تكون! أنت تختلف عن الرجل الكبير...كونك فخوراً بالآخر وليس بنفسك، تتعجب من الفكرة التي لاتملكها، وليس من الفكرة التي تملكها، تعتقد بقوة الأشياء، كلما كنت عاجزا عن فهمها، ولا تعتقد بالأفكار التي تفهمها بسهولة».
ورغم هذه القسوة الأبوية من رايش على قرائه إلا أنه يبدي حنان الأم على هذا القارئ فيحاول أن يرسم له خريطة داخلية بين الصفحات تجعله يشعر بالحرية والسعادة والالتفات نحو نفسه وحريته الشخصية، ورغم أن هذه الخريطة الداخلية التي في بطن الكتاب قد يوافق أو لا يوافق عليها الكثير من القراء لأسباب دينية أو اجتماعية إلا أن الكتاب ككل يعتبر تصفية حسابات ضد منطق الإنسان ذي البعد الواحد الذي لا يرى إلا ما وضع أمامه في «تويتر» كحصان الحواجز!
وما يبرر غضب رايش هو أن الكتاب كتب في منتصف الأربعينات بعد حرب عالمية طاحنة، ودعاوى قومية أفقدت الناس حريتهم، وآلة إعلامية أفقدتهم توازنهم، ما تسبب في سجن رايش ليموت بين جدرانه في أواخر الخمسينات ولكنه لم يمت ابدا كرجل صغير.
وإذ كان ثم هناك ما يقال بعد ما كتبه رايش في خطابه فهو أننا مازلنا نعيش الحالة نفسها بأدوات أكثر قوة لربما كانت جعلت من رايش نفسه هو ذاته الرجل الصغير الذي خاطبه... ما الذي كان سيفعله رايش إذا عاش في زمن تفجرت فيه الثورات حولنا ثم انطفأت، وتفجرت فيه المعلومات بيننا ثم جهلنا أكثر، وتفجرت ثورة علمية تعدنا بالخلود... ولكننا تألمنا أكثر، ما الذي كنت ستفعله يارايش إذا كنت بين كل هذا الهراء الذي يجعل منك رجلا صغيرا حقا في زمن أصبح فيه الرأي العام هو حاصل آراء صغار الرجال ونسائهم.


كاتب كويتي
moh1alatwan@

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي