بصماتنا... هل لها وظائف فِسيولوجية؟!
أول ما يتبادر إلى أذهان كثيرين عند سماع أو قراءة كلمة «بصمات» هي تلك النقوش والأقواس الأخدودية الدقيقة التي ترتسم على أطراف أصابع اليدين.
لكن حقيقة الأمر، من النواحي الطبية والبيولوجية والتشريحية، هي أن كلمة «بصمة» لا تقتصر على تفاصيل جلد أطراف الأصابع، بل تمتد إلى نطاق أوسع لتنطبق على أي سمة أو خاصية جسدية أو سلوكية يتفرّد بها الشخص عن غيره من سائر البشر بحيث يكون ممكنا من خلالها التعرف على هويته والتحقق منها.
وبهذا المفهوم، فإننا سننظر في حلقة اليوم إلى كلمة «بصمة» من زاوية مفهومها الأشمل الذي ينطبق على التفاصيل المتفردة الدقيقة الخاصة بأعضاء جسدية معينة كقزحية العين وشبكيتها، ونبرة الصوت، وتركيبة خريطة الحمض النووي الوراثي، وشكل تلافيف صيوان الأذن، ونمط اصطفاف الأسنان في اللثتين. بل يمتد المفهوم ليشمل بصمات سلوكية من بينها نمط الكتابة بالقلم، ونمط النقر على الأزرار، ونمط المشية.
في هذا الإطار، هناك تساؤل يستحق المناقشة، ألا وهو: هل لبصماتنا البيولوجية وظائف فسيولوجية معينة؟
الواقع أن هناك شبه إجماع علمي حاليا حول أن الإجابة عن هذا السؤال تتلخص في أن البصمات عموما ليست لها وظائف فسيولوجية محددة، لكن هذا لا يعني أنها ليست ذات فائدة حيث تجمعها وظيفة مهمة مشتركة تتمثل في كونها معالم فريدة لتمييز هوية كل شخص عن جميع البشر الآخرين، ما يعني أن كل إنسان «متفرد» في جوانب بيولوجية معينة بما يسمح بالتحقق من هويته عند الضرورة.
فإلى مزيد من الأضواء التوضيحية على عالم خصائص البصمات البيولوجية البشرية...
بصمات الأصابع... متى تنشأ؟
يبدأ نشوء تفاصيل بصمات الأصابع خلال مراحل تخليق الجنين في رحم أمه، وتحديدا في الشهر السادس من الحمل. ويولد الطفل حاملا لتلك البصمات التي تبقى ملازمة له طوال حياته. وهي قادرة على أن تعيد تشكيل نفسها في حالات الاصابة، بمعنى أنه إذا أزيلت الطبقة الجلدية من على طرف أصبع بشكل كامل، فإن طبقة جديدة تنبت حاملة تفاصيل البصمة ذاتها التي أزيلت. بل أن الأعجب هو أنه إذا تم نزع جلد بصمة شخص وزرع جلدا جراحيا في مكانه، فإن المدهش أن ملامح بصمته الأصلية تعاود النشوء بدقة متناهية.
ولا يمكن أن تتشابه خريطة بصمات أصابع شخصين حتى إذا كانا توأمين متطابقين. فخريطة بصمة كل أصبع من أصابع أيدينا تكتسب تفرّدها من أنه يكون لها تضاريس فريدة من نوعها وتتألف من أخاديد ذات أقواس، ومنحنيات، وتلافيف، وجُزُر منقوشة على نحو يجعل من المستحيل أن تتشابه بصمات شخصين.
وبصمات أصابع اليدين هي أشهر البصمات البيولوجية وأقدمها استخداما على الاطلاق، إذ انها كانت أول وسيلة تَحقُّق نجاح العلم في اكتشافها واستخدامها كوسيلة للاستدلال على الهوية في القضايا الجنائية، ثم أصبحت لها تطبيقات أخرى مع مرور الزمن، بما في ذلك استخدامها كهوية شخصية تسمح لصاحبها بالمرور عبر بوابات أمنية أو بالتوقيع لدى وصوله إلى عمله أو انصرافه منه.
بصماتنا الأخرى... و«المقاييس البيولوجية»
في مجاليّ الأحياء والطب الجنائي، يُطلق مصطلح«المقاييس البيولوجية»(biometrics) على جميع السمات أو الخصائص الجسمانية والسلوكية التي يتفرّد بها كل شخص عن غيره، ويمكن رصدها وقياسها واحصاؤها وتخزينها بطرق متنوعة لاستخدامها عند الضرورة كأدلة مرجعية لإثبات (أو نفي) هوية هذا الشخص أو ذاك.
ومبحث «المقاييس البيولوجية» (أو الـ«بَيومِتْرِكس») هو ذلك الفرع المتخصص تحديدا في التحقُّق من أو التعرف على هوية كل شخص على حدة عن طريق علامات فارقة شكلية وفسيولوجية وتشريحية لا يتشابه معه فيها أي شخص آخر. وهذه العلامات الفارقة هي في حد ذاتها «بصمات» شخصية متفردة على غرار بصمات أصابع اليد.
ومع التطور التكنولوجي الرقمي وظهور التطبيقات الالكترونية، أصبح من الممكن بسهولة تحويل احداثيات تلك البصمات البيولوجية إلى رموز وشيفرات رقمية وتخزينها في قاعدة بيانات الكترونية لاتخاذها كمرجع للتعرف على هويات الأشخاص بدرجة عالية من الدقة من خلال مضاهاة ومقارنة إحداثيات السمة المستهدفة بالقياس لدى الشخص مع إحداثياتها الرقمية المخزنة سلفا.
وفي كل الأحوال، تعتمد طرق أخذ تلك البصمات على رصد تفاصيلها بأجهزة خاصة ثم تحويل تلك التفاصيل إلى بيانات رقمية، ومن ثم تخزينها في قاعدة بيانات لتكون مرجعا للمضاهاة والمقارنة عند التحقق من هوية الشخص. وإلى جانب بصمات أصابع اليدين، فإننا كبشر لنا بصمات حيوية فارقة أخرى بعضها جسدي (أي مادي ملموس)، بينما بعضها الآخر سلوكي بمعنى أنه ينبع من أنماط حركية أو اهتزازية تنبع من الشخص المستهدف بالقياس.
ونستعرض في التالي أبرز تلك البصمات الأخرى:
أولا: بصمات بيولوجية جسدية
• بصمة الصوت: تعتمد هذه البصمة على حقيقة أن لكل إنسان أعضاء صوتية (حنجرة وأوتار صوتية) ذات تشريح متفرد، وبالتالي فإن ذبذبات صوته ونبرة كلامه لا تتشابه مع أي أحد آخر مهما حاول ذلك الآخر أن يقلده.
• بصمة قزحية العين: قزحية العين هي ذلك الجزء الدائري الملون الموجود في وسط العين، وهي تحوي أكثر من 200 سمة فريدة تجعل من المستحيل أن تتطابق تفاصيل قزحية شخص مع شخص آخر. بل أن بصمة قزحية عين الشخص اليسرى لا تتطابق مع بصمة قزحية عينه اليمنى. وتتميز هذه هذه الخصائص بأنها تبقى ثابتة لدى الشخص طول حياته.
• بصمة شبكية العين: تعتمد هذه البصمة على تصوير خارطة شبكة الشعيرات الدموية المتفرعة من العصب البصري إلى الشبكية. فخارطة هذه الشعيرات تتسم بخصائص فريدة لا يمكن أن تتشابه لدى شخصين. ولكن شكل هذه الخارطة يتغير قليلا مع مرور الزمن، وهو الأمر الذي يستدعي تحديث البيانات المخزنة بشكل دوري.
• بصمة سمات الوجه: يمكن التحقق من هوية الشخص إلكترونياً من خلال رصد وقياس أبعاد وتضاريس ملامح وجهه، وذلك من خلال كاميرا فيديو رقمية معينة تقوم بعمل مسح تلك الملامح، بما في ذلك المسافة الفاصلة بين العينين، وقياسات الأنف، وشكل الفم، وخط حدود الفك السفلي. وبعد ذلك يتم تخزين تلك البيانات الكترونيا في قاعدة بيانات لتتم المقارنة وإثبات الهوية على أساسها لاحقا.
• بصمة هندسة اليد: تعتمد بصمة هندسة كف اليد على تحليل وقياس أبعاد يد الشخص كاملة بماسح ضوئي خاص ثم تخزين تلك الأبعاد الكترونيا في قاعدة بيانات لتكون مرجعا لاحقاً في عملية المضاهاة والتحقق من الهوية. وعلى الرغم من أن بصمة هندسة اليد لا تعتبر سمة فريدة بالمعنى الدقيق، فعي يمكن أن تفيد في التحقق من الهوية في نطاقات محدودة كأماكن العمل، إذ انه من النادر أن يجتمع شخصان في مكان عمل واحد ويملكان بصمة هندسة يد متطابقة.
• البصمة الوراثية: هي عبارة عن رصد أجزاء معينة من الخريطة الجينية الخاصة بالشخص، وذلك على مستوى الكروموسومات والجينات التي يتألف منها حمضه النووي الريبوزي (DNA).
• بصمة السوائل الجسدية: من الممكن عمليا التحقق من هوية شخص من خلال بصمة أي عينة من سوائل جسده، بما في ذلك اللعاب والدم والبول.
• بصمة باطن القدم واليد: مثلما كان قصاصو الأثر يستطيعون تحديد هوية شخص من خلال آثار قدميه على الرمال، بات من الممكن في عصرنا الراهن الاعتماد على صورة تفاصيل باطن قدم أي شخص للقيام بالغرض ذاته. لكن هذه البصمة تحتاج إلى تحديث دوري. وينطبق المبدأ ذاته على بصمة باطن كف اليد.
• بصمة تفريعات شبكة أوردة اليد: لوحظ أنه لا يوجد شخصان تتشابه لديهما شبكة تفريعات الأوعية الدموية التي تظهر من خلال الجلد على ظهر كف اليد. ولهذا تم اتخاذ صورة تلك التفريعات كبصمة تمييزية يمكن من خلالها التعرف على هوية كل شخص على حدة.
• بصمة أنسجة الجسم: من الممكن التعرف على هوية أي شخص من خلال تحليل أي نسيج من أنسجة جسمه إذا تم العثور عليه في موقع جريمة مثلا، بما في ذلك أي جزء من شعره أو من أحد أسنانه، أو غير ذلك.
• بصمة صيوان الأذن: لا يتشابه اي شخصين في شكل تضاريس وتلافيف صيوان الأذن، ولذلك فإنه من الممكن الاعتماد على شكل تلك التضاريس كبصمة تمييزية مرجعية.
• بصمة اصطفاف الأسنان: يمتلك كل إنسان نمطا فريدا لاصطفاف أسنانه في الفكين، وهو النمط الذي يتخذه اختصاصيو الطب الجنائي تحديدا كبصمة يستطيعون من خلالها إثبات أو نفي هوية أي شخص استنادا إلى بيانات مرجعية سابقة تكون لديهم، أو استنادا إلى مضاهاة الآثار التي تتركها عضة ذلك الشخص على أي جسم.
ثانيا: بصمات سلوكية
• بصمة الكتابة بخط اليد: فلكل شخص نمط متفرد خاص به في طريقة التوقيع أو الكتابة بقلم، وهو النمط الذي يصعب على الشخص أن يغيره.
• بصمة النقر بأطراف الأصابع: على غرار بصمة التوقيع والكتابة بالقلم، يمتلك كل شخص أسلوبا متفردا في الضغط على الأزرار والشاشات التي تعمل باللمس، وهي الخاصية التي يمكن استشعارها واتخاذها كبصمة للتمييز بين الأشخاص.
• بصمة «نمط المشية»: قد يبدو هذا الأمر غريبا، لكنه مؤكد وثابت علميا. فلكل إنسان بصمته الفريدة في نمط مشيته. ويتم استخدام هذه الطريقة عادة في حالات مهينة، من بينها التعرف على أشخاص من بُعد خلال سيرهم، وخصوصا في مواقع العمل المفتوحة والواسعة نسبيا، كمواقع مصافي النفط، وساحات المعارك، وما شابه ذلك.
أشخاص بلا بصمات أصابع... والمتهم «أديرماتوغليفيا»!
اكتشف علماء أن بعض الأشخاص يولدون من دون بصمات أصابع، وأن المتهم الأول الذي يقف وراء انعدام البصمات لديهم هو اضطراب وراثي نادر اتضح لاحقا أنه يصيب موضع تضفير جين يحمل الاسم SMARCAD1، حيثُ يؤدي ذلك الاضطراب إلى إحداث قصورٍ في تركيبة ووظيفة بروتين جلدي معين مسؤول عن عملية «نحت» خطوط أخاديد البصمات.
وقد أطلق العلماء على ذلك الاضطراب الجيني النادر جدا مصطلح «أديرماتوغليفيا» (adermatoglyphia)، وهو المصطلح الذي يعني «انعدام النحت الجلدي»، وذلك في إشارة الى ان جلد أطراف أصابع الشخص المريض بذلك الاضطراب لا يستطيع أن ينحت تلك الأخاديد التي تتألف منها البصمات.
وهذا المرض شديد الندرة، إلى درجة أنه لم يتم حتى الآن رصد سوى حالات متفرقة محصورة في أجيال 4 عائلات فقط على مستوى العالم. كما أن الخبر السار الآخر هو أنه ليست هناك أي تأثيرات صحية جانبية ضارة تنجم عن انعدام بصمات الأصابع الذي ينجم عن الإصابة بمرض «أديرماتوغليفيا».
هل سنستعيد «بصماتنا» يوم القيامة؟... الإجابة يقدمها القرآن الكريم!
بِسْمِ اللَّـهِ الرَّحْمَـ?نِ الرَّحِيمِ: لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ. أَيَحْسَبُ الإنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ. بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ. [سورة القيامة – الآيات من 1 إلى 4].
من خلال الآية الكريمة «بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ»، يؤكد ربنا الخالق العظيم في مستهل سورة «القيامة» أنه قادر – عندما يشاء – على تجميع ذرات رفات كل إنسان بعد أن تتشتت في أرجاء الأرض، بحيث يعيد هيكله إلى الهيئة الكاملة ذاتها التي كان عليها قبل موته. وتأكيدا على مدى الدقة في إعادة التجميع، تشير الآية إلى أن درجة القدرة الربانية تصل إلى أدق تفاصيل «البنان» (أي الأصابع)، وهي التفاصيل التي تشمل تلك الأخاديد الصغيرة المتناهية الصغر التي نطلق عليها اسم «بصمات الأصابع».
وتنطوي هذه الآية على مدلول إعجازي، إذ انها تنسجم تماما مع الحقيقة العلمية التي مفادها أنه حتى في حال تخليق توأمين متطابقين من بويضةٍ واحدة فإن بصمات أصابع أحدهما تختلف عن بصمات الآخر. لكن الغرض الإعجازي الذي يكمن في هذه الآية لا يقتصر على إعادة تكوين تفاصيل بصمات أصابع كل شخص عند البعث في يوم القيامة، بل يتعداه ليشمل استعادة جميع التفاصيل والمقاييس البيولوجية الأخرى التي ذكرناها آنفا في سياق تقريرنا الرئيسي، والتي ذكرنا أن كل واحدة منها هي «بصمة» متفردة يتميز بها كل شخص عن كل البشر الآخرين.
وهذا يعني أن الخالق سبحانه سيعيد تجميع وتركيب جميع «البصمات» الجسمانية والسلوكية وحتى النفسية الخاصة بكل إنسان، بما في ذلك بصمته الوراثية المتمثلة في تركيبة حمضه الريبوزي النووي منزوع الأكسجين، وهو الحمض المعروف اختصارا بـالـ«DNA».
أنماط بصمات الأصابع
بشكل عام، تنقسم أشكال خرائط بصمات أصابع اليدين إلى 3 أنماط رئيسية، ألا وهي: نمط «التقوسات»، ونمط «الاستدارات المتمحورة»، ونمط «التلافيف». والصورة التوضيحية المرفقة تبين نماذج معبرة عن تلك الأنماط.
ومن هذه الأنماط الثلاثة، تنبثق توليفات فرعية وأخرى ثانوية تنشأ عنها سائر تنويعات نقوش المنحوتات اللامتناهية لبصمات أصابع البشر. وقد تحوي بعض البصمات نمطين أو أكثر.